بيع العين الغائبة يُعد من أكثر القضايا الفقهية إلحاحاً في عصرنا الحالي، نظراً لارتباطه المباشر بمعظم معاملاتنا اليومية عبر الإنترنت (كالتجارة الإلكترونية والهاتف والكتالوجات). ويُعرف الفقهاء بيع العين الغائبة بأنه بيع العين المملوكة للبائع والموجودة في الواقع، ولكنها غير مرئية للمتعاقدين في مجلس العقد. وتختلف هذه الصورة عن “بيع المعدوم”؛ فالعين هنا موجودة ومملوكة ولكنها غائبة عن النظر.
قواعد وضوابط تعيين المبيع (بين الحضور والغياب)
قبل الخوض في الخلاف الفقهي، لا بد من تقرير قواعد عامة تحكم مسألة تعيين المبيع، وهي تفصيلات دقيقة تضبط المسألة:
قوة الإشارة الحسية
من المقرر فقهاً أن الإشارة إلى المبيع هي أقوى طرق التعريف والتعيين؛ ولذلك إذا كان المبيع في حضرة المتعاقدين (مجلس العقد) وتم تعيينه بالإشارة بحيث عرفه المشتري ورآه، فإن البيع لازم.
قاعدة (الوصف في الحاضر لغو، وفي الغائب معتبر)
في الحاضر: لو أشار البائع لسلعة حاضرة ووصفها بوصف مغاير لما رآه المشتري (كأن يشير لثوب أحمر ويقول هو أزرق)، ورضي به المشتري، فليس له المطالبة بعدئذ بالوصف؛ لأن العبرة بما رآه ورضي به، والوصف هنا لغو.
في الغائب: أما إذا كان المبيع غائباً، فلا بد من بيعه إما بطريقة السلم (الوصف الكامل) أو بتحديد مكانه. وهنا يكون الوصف معتبراً، ويترتب على فواته “خيار فوات الوصف”.
الفرق بين الغلط في الجنس والغلط في الوصف
الغلط في الجنس: كأن يقول “بعتك هذا الفرس” ويشير إلى “ناقة”؛ هنا البيع باطل لأن الاسم (الجنس) هو المعتبر، واختلاف الجنس يجعل المبيع في حكم المعدوم. وقد صرح القرافي بأنه إن لم يذكر الجنس في البيع (كأن يقول بعتك ثوباً ويسكت) امتنع إجماعاً.
الغلط في الوصف الخفي: إذا كان الوصف مما يخفى ولا يدرك بالنظر المباشر (ككون البقرة حلوباً)، واشترط في العقد وتبين خلافه، يثبت للمشتري الخيار حتى لو كان المبيع حاضراً.
حكم بيع العين الغائبة (المذاهب والأدلة)
اختلف الفقهاء في حكم بيع العين الغائبة إلى اتجاهين رئيسيين:
الاتجاه الأول: جواز بيع العين الغائبة (جمهور الفقهاء)
ذهب الحنفية، والمالكية، والحنابلة (في ظاهر المذهب)، والقول القديم للشافعية إلى الجواز، ولكن بتفصيلات وشروط أضافتها المصادر الفقهية كما يلي:
1. الحنفية: (الجواز مع خيار الرؤية)
يجوز بيع العين الغائبة ولو لم يسبق وصفه. ويثبت للمشتري “خيار الرؤية”؛ فإذا رآه كان مخيراً: إن شاء قبله وإن شاء فسخ البيع.
وخيار الرؤية عند الحنفية لا يورث؛ فإذا مات المشتري قبل الرؤية لزم البيع ولا خيار لوارثه.
2. المالكية: (الجواز بشروط ثلاثة)
يجوز بيع الغائب على الصفة، وتقوم الصفة مقام الرؤية. وقيدوه بثلاثة شروط لضمان انتفاء الغرر:
- ألا يكون قريباً جداً: بحيث تمكن رؤيته بغير مشقة؛ لأن بيعه غائباً حينئذ عدول عن اليقين (الرؤية) إلى الشك، فلا يجوز.
- ألا يكون بعيداً جداً: بحيث يتوقع تغير صفاته قبل التسليم، أو يتعذر تسليمه.
- أن يصفه البائع: بالصفات التي تتعلق بها الأعراض التي يختلف بها الثمن (صفات السلم).
وإذا تم البيع بالوصف، فإنه يلزم بالعقد، فإن جاء مطابقاً لزم البيع، وإن خالف كان للمشتري “خيار الخلف” (فوات الوصف).
3. الحنابلة: (الجواز بالوصف الدقيق)
أجازوا بيع الغائب إذا وُصف المبيع وصفاً دقيقاً (كوصف السلم). ويقصرون الخيار على حال “عدم المطابقة” فقط. أما إذا طابق الوصف، فالبيع لازم ولا خيار للمشتري (خلافاً للحنفية الذين يثبتون الخيار مطلقاً).
الاتجاه الثاني: عدم جواز بيع العين الغائبة
وهو القول الجديد للشافعية، وهو الأظهر في مذهبهم، ورواية عن أحمد.
- قال الشافعية: لا يصح هذا البيع ولو وُصِف وصفًا دقيقًا، وقد سأل المزني الإمام الشافعي عن بيع الصفة، فقال: “لا يجوز من هذا شيء؛ لأن بيوع الصفة لا تجوز إلا مضمونة على صاحبها بصفة”. وهذا القول هو الأظهر في المذهب وعلة المنع حديث النهي عن بيع الغرر؛ لأن المبيع مجهول الرؤية.
استثناء عند الشافعية: أجاز الشافعية صورة واحدة، وهي ما لو كان المبيع في “البرنامج” (الدفتر) أو بيع “الأنموذج” بشرط أن يدخل الأنموذج في البيع (كأن يقول: بعتك الحنطة التي في هذا البيت وهذا أنموذجها).
- قال الحنابلة (في الأظهر): نقل صاحب المغني رواية بعدم صحة بيع الغائب عن إمام المذهب وقال هي الأظهر. واعتبر المرداوي هذه الرواية وقال: “هي الصحيحة في المذهب.”
أدلة المذاهب ومناقشتها
مناقشة دليل “النهي عن الغرر”
استدلال المانعين: استدلوا بحديث النهي عن بيع الغرر، معتبرين أن الجهل برؤية المبيع غرر.
الرد والمناقشة: نوقش هذا الاستدلال بأن بيع الغائب لا يُسلّم بأنه من بيوع الغرر إذا وُصف وصفاً دقيقاً عن خبرة ومعرفة؛ فإن الغرر ينتفي بالوصف ، ويصير المبيع كالمشاهد المحسوس. كما أن الصفة تقوم مقام رؤية الموصوف كما دلت نصوص الشريعة.
مناقشة دليل “لا تبع ما ليس عندك”
استدلال المانعين: استدلوا بحديث «لا تبع ما ليس عندك» على أن الغائب ليس عند البائع .
الرد والمناقشة: نوقش بأن الحديث لا يتناول بيع العين الغائبة المملوكة؛ لأن معنى “عندك” في الحديث يتعلق بالملك والقدرة على التسليم، وليس الحضور الحسي في المجلس. فمن يملك شيئاً غائباً يصدق عليه أنه “عنده”، بخلاف من يبيع ما لا يملك.
مناقشة القياس على “بيع النوى في التمر”
استدلال المانعين: قاسوا الغائب على ما في داخل التمر من نوى (مغيّبات).
الرد والمناقشة: رُدّ بأنه قياس مع الفارق؛ لأن الغائب الموصوف المملوك لا يماثل النوى داخل التمر الذي هو بمثابة المعدوم أو المجهول كلياً.
مناقشة أدلة المجيزين (تضعيف الحديث)
في المقابل، تم توجيه نقد لأدلة المجيزين فيما يخص الأحاديث الخاصة بخيار الرؤية (حديث أبي هريرة وحديث مكحول)، حيث نوقشت بأنها أحاديث ضعيفة باتفاق المحدثين ولا تصح للاحتجاج.
الترجيح (الرأي المختار)
ويظهر بعد استعراض الأدلة ومناقشتها ترجيح قول الجمهور القائل بجواز بيع العين الغائبة بالوصف. بناء على هذه الأمور:
- قوة أدلة هذا الرأي.
- سلامة الأدلة من المعارضة والمناقشة (مقارنة بأدلة المانعين التي تم الرد عليها).
- عموم النصوص: أن دعوى تخصيص عموم البيع بحديث النهي عن الغرر لا تستقيم مع عموم النص القرآني الدال على جواز البيع (بما فيه الغائب).
- كفاية الوصف: “أنه رُبّ وصف دقيق أصدق من رؤية عابرة”؛ وعليه فإن الصفة تقوم مقام الرؤية في رفع الجهالة
أحكام البيع على “البرنامج” و “الأنموذج”
من الصور التطبيقية لبيع الغائب ما يعرف ببيع البرنامج أو الأنموذج، وحكمه كما يلي:
- تعريف البيع على البرنامج: هو البيع بناءً على دفتر كُتبت فيه أوصاف البضائع (كالكتالوجات المعاصرة وقوائم الشحن).
- تعريف البيع على الأنموذج: أن يريه عينة (صاعاً من قمح مثلاً) ويبيعه الكمية الكاملة (الصبرة) على أنها مطابقة لهذه العينة.
التطبيقات المعاصرة
بناءً على رأي الجمهور المجيزين، فإن الوسائل المعاصرة تعد “وصفاً” رافعاً للجهالة:
- الوصف الإلكتروني والكتالوجات: وهي عبارة عن الصور والمواصفات المعروضة في المتاجر الإلكترونية (Amazon, Noon وغيرها) وتعد الكتالوجات (الورقية أو الإلكترونية) وسيلة تعاقدية تتضمن بياناً لأوصاف المبيع وثمنه وشروطه ، وهي تأخذ حكم “البيع على البرنامج” عند الفقهاء، وتقوم مقام الرؤية إذا كانت الصور والمواصفات دقيقة.
- البيع عبر وسائل الاتصال (الهاتف/الإنترنت/التلفاز): يتم الاعتماد فيه على الوصف اللفظي أو المرئي (عبر الشاشات)، وهو جائز إذا تضمن وصفاً دقيقاً يرفع الجهالة الفاحشة.
- العلامة التجارية (Branding): تعتبر إشارة ظاهرة تميز البضائع عن غيرها، وهي نوع من الوصف الضمني للجودة والنوع الذي يعتمد عليه المشتري، مما يقلل الغرر.
- بيع العقارات والسيارات بالوصف: يتم عبر المخططات الهندسية (للأراضي) أو المواصفات الفنية (للسيارات)، وتأخذ حكم بيع الغائب الموصوف.
