نادرًا ما نجد في الـمصادر التُّراثية الإسلامية القديمة ألفاظا من مثل: “العيش” أو “التعايش” أو “العيش الـمشترك”، بالـمعنى الـمُراد منها في الأزمنة الـحديثة. والسَّبب في ذلك يرجع إلى عدم الانشغال بقضايا الاختلاف؛ حتَّى في مستوى العقائد، وفقًا للمبدأ القرآنيِّ الكريم:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة: 256] و {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}.[الكهف: 29]
على أنَّنا نجد في القرآن الكريم تشديدًا على ضرورة التنوُّع والاختلاف، وأنهما سُنَّة إلهيَّة لا تتبدَّل باختلاف الزَّمان والـمكان، كما أنَّ الاختلاف في الـخَلْق سُنَّة كونية بصريح القرآن: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}.[الروم: 22]
وكما يقول الطَّاهر بن عاشور؛ فإنَّ اختلاف لغات البشر آية عظيمة، فهم مع اتحادهم في النوع، كان اختلاف لغاتهم آية دالة على ما كونه اللَّه في غريزة البشر من اختلاف التَّفكير وتنويع التصرُّف في وضع اللغات، وتبدُّل كيفياتها باللهجات والتَّخفيف والحذف والزِّيادة بحيث تتغيَّر الأصول الـمُتَّحدة إلى لغات كثيرة.
وتبعًا لذلك؛ فإنَّ مفهوم التَّعايُش يُراد به جميع أشكال التَّفاعل والتَّعاون والتَّكامل البنَّاء الـمُنبثق عن الإحسان والرِّفق والرِّعاية والعناية بين الـمُسلم والآخر على مستوى الفرد والـمجتمع. والواقع الذي لا شك فيه أنَّ الوعي بمقتضيات فقه التَّعايش وضرورة التواصل الـحضاري يستلزم توافر الـحدِّ الأدنى من ثقافة الاحترام الـمتبادل بين الشعوب والأمم أولا، وبين مختلف الطَّوائف والـمذاهب والتيارات الدينية والفكرية والسياسية في الـمجتمع الواحد ثانيا؛ مصداقًا لقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.[الحج: 78]
فالإسلام في الأصل يُفرِّق بين العقيدة التي تؤصِّلها الشَّريعة، وبين التَّعايش الذي يفرضه الواقع الاجتماعي؛ كما هو واضح من قول النبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم: ((ألا مَنْ ظلَم مُعاهِدًا أو انتقصَهُ أو كلَّفَهُ فوقَ طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسٍ؛ فأنا حَجِيجُهُ يوم القيامة)).[سنن أبي داود: 2/187] كما أنَّ جزءًا كبيرًا من سوء الفهم التَّاريخي في علائق الـمسلمين بالآخرين؛ إنما يتأتَّى من الفهم السَّقيم لدى البعض لنصوص الدين، وعدم تقبُّل فكرة أنَّ كل ما ليس قطعيا من الأحكام؛ فهو أمرٌ قابل للاجتهاد، وأنه ما دام يقبل الاجتهاد فهو قطعًا يقبل التعدُّد والاختلاف. فقبول الاختلاف في تكييف الواقع يمثِّل أساسا تحقيق المناط، ومقاصد الدِّين، ويحدُّ في الوقت نفسه من التكلُّف أو التنطُّع فيه.
من جهة أخرى، يمتلك الـمسلمون تراثا فقهيًّا وكلاميًّا ضخمًا فيما يتعلَّق بمسألة التعايش؛ أو بالأحرى برؤى العالَم والآخر. ففضلًا عن الـحراك الإنسانيِّ الـمُتجدِّد والـمُستمر الذي انعكس في التَّجربة التاريخية؛ تزدخر النُّصوص التُّراثية التي نشأت على هامش الكتاب والسُنَّة النَّبوية: قولًا وفعلًا وتقريرًا وسكوتًا، بنصيب وافر من النِّقاش حول قضايا الاختلاف الدِّينيِّ والفكريِّ والـحضاريِّ. كما أنَّ الكتابات الفقهيَّة الأولى حول ما يُمكن تسميتُه بمسائل “العيْش الـمُشْترك”، والتي عُنيت بترتيب علاقة الـمُسلم مع غيره، قد اندرجت تحت عنوانٍ اختاره الفقهاءُ لهذا النَّوع من الـموضوعات؛ ألا هو “السِّـيَر”.
ضمْن هذا الإطار يقول السَّرَخْسِيُّ (ت 500هـ)، في معْرض تعليقه على عُنوان كتاب أبي عبد اللَّه محمَّد بن الـحسين الشَّيبانيِّ الـمتوفَّي سنة 189هـ السِّـيَر الصَّغير: “اعْلم أنَّ السِّـيَر جمعُ سيْرةٍ، وبه سُمِّي هذا الكتاب؛ لأنَّه يُبيِّن سيرةَ الـمُسلمين في الـمُعاملة مع الـمُشْركين من أهل الـحرب، ومع أهْل العهْد منهم من الـمُسْتأمنين وأهل الذِّمَّة، ومع الـمُرْتدين، ومع أهل البغْي الذين حالُهم حالُ الـمُشْركين وإن كانوا جاهلين، وفي التَّأويل مُبْطلين”.
وفي السِّياق ذاته، كان “العدْل” أو “الإنصاف” هو الـمُحدِّد؛ بل الضَّابط، لِمُقاربة مفهوم التَّعايُش أو العيش الـمُشْترك مع غير الـمسلمين؛ اتباعًا للهَدْيِّ القرآنيِّ الكريم: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰۖ وَبِعَهْدِ اللَّـهِ أَوْفُوا ۚذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.[الأنعام: 152- 153]
وليس من “العدل” على الإطلاق الاستهزاء بعقيدة الآخر، وليس من “الإنصاف” ظُلْمُه أو إيذاؤُه أو الإساءة إليه بأي شكل من الأشكال. كما أنَّه ليس من “العدل” أيضًا الـحُكم على الآخر بالكُفر والضَّلال والـهلاك في النَّار، أو السُّخرية من دينه أو مُعتقده أيًّا كان؛ بل الـمُسلم الـحقيقيُّ مُطالب في كلِّ وقتٍ وحينٍ بالإحسان إلى جميع الـخلْق، على اختلاف ألوانهم وتعدُّد أجناسهم وتبايُن مُعْتقداتهم: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.[الـممتحنة: 8] وفي الـحديث النَّبويِّ الشَّريف: ((الـمُقسطون عند اللَّه يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش؛ الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولُّوا)).
وختاما يمكن القول: إنَّ لثقافة العيش الـمُشْترك التي تنتمي إلى الإسلام خصائص أربع على الأقل؛
أولها: أنَّ العيش أمرٌ أناسيٌّ يرتبط بحياة النَّاس أولًا وأخيرًا، فالعيْشُ ليس محْصُورًا أمرُه داخل الأمَّة الإسلاميَّة فحسب، بل العيش للإنسان بما هو إنسانٌ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُم﴾.[هود: 118- 119]
ثانيها: كونه أمرًا تبادُليًّا، فقِوَام العيش الـمُشترك بالتبادُل (النَّاسُ بالنَّاس)، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.[الحجرات: 13]
ثالثها: كونه أمرًا يرتبط بالتَّجربة العمليَّة، فقِوَام ترْميم العيش الـمُسْتَرك، وتطوُّر العيش، وتكامُل العيش، بالتجربة ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾.[تبارك: 1- 2]
رابعها: كونه أمرًا إنسانيًّا عامًّا مُشْتركًا يهمُّ الـجميع ما داموا يعيشون في وطنٍ واحد.