من الأخطاء الشائعة لدى جمهرة كبيرة من عوام المسلمين هو تصورهم أن كل متحدث في الدين قادر على الفتوى وعلى صياغة الأحكام الفقهية وتنزيلها على الواقع. وهذا خطأ فاحش وتصور فاسد، وإنما هو من نتاج غياب الوعي بالفروق بين الفقيه والواعظ، وإعطاء الواعظ دور الفقيه !
ولا يخفى ما في قيام غير المتمكن في الفقه -مهما أوتي من قدرة على تنميط الكلام وملكات في الوعظ والتوجيه- مقام الموقع عن رب العالمين من خطأ فاحش؛ قد يجر إلى مفاسد كبيرة ! وفي مدونات الحديث خَبر أولئك القوم الذين تقدموا إلى مقام الفتوى دون أن يكونوا من أهلها، فانتهت فتواهم إلى أن كانت سببا في قتل النفس ! روى أبو داود وابن ماجه وحسنه الألباني، عن جابر قال: خرجنا فى سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه فى رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة فى التيمم. فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبى ﷺ، أُخبر بذلك، فقال: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب -شك الراوي- على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده).
وهذا نموذج لفتوى غير المتخصص في الفقه الذي يقحم نفسه في غير ما يحسن فيتورط ويورط غيره، وربما ترتب على فتواه أضرار كبيرة، مثل ما حدث مع هذا الرجل المسكين الذي مات بسبب هذه الفتوى التي صدرت من غير أهلها ولم تكن في محلها.
وهؤلاء القوم الذين أصدروا هذه الفتوى إنما هم نموذج لكثير من الوعاظ غير المتمكنين من الفقه، الذين يتصدون اليوم لموقف الفتوى والكلام في قضايا الفقه الدقيقة؛ لمجرد أنهم أعطوا ملكة الوعظ والكلام في الدين، دون أن يتنبهوا إلى الفروق الكبيرة بين مقام الواعظ ومقام الفقيه !
فالوعظ شيء والفقه شيء آخر. الوعظ حديث في العموميات وكلام إطلاقي يستهدف الترغيب وشحذ الهمم ومخاطبة القلوب لا العقول، وتجيش العواطف. وهو سهل ميسور جدا لأنه ليس علما قائما بذاته وليست له قواعد ولا أصول، ولذلك قيل إنه علم من لا علم له.
وقد يكون الواعظ حافظا لكثير من المرويات والقصص وكلام السلف، ولكنه لا يميز بين ضعيفها وصحيحها، وليست له قريحة فقهية يزن عليها مروياته، بل يغلب على كثير من الوعاظ الولع بالغرائب والمبالغات والميل للمسائل الضعيفة والآراء المرجوحة.
أما الفقه فهو مسائل مضبوطة وقضايا محددة وواضحة تخاطب العقول أولا، وله قواعد ومناهج للاستنباط معروفة مضبوطة، وهو يحتاج إلى جهد كبير في التفهم والمذاكرة، وتتطلب معرفته وإتقانه ضبطا محكما للمسائل وذهنية وقَّادة قادرة على المقايسة والاستنباط، وعلى صياغة الأحكام الشرعية وتنزيلها على الوقائع.
وكان السلف قديما يسمون الواعظ بـ”القاصِّ”، وكان بعضهم يحذر من مجالسته والقعود إليه ! والسبب في ذلك هو ما يحويه كلام القُصاص من مبالغات وتهويلات قد تتنافى مع روح الدين، وما يتضمنه كلامهم أيضا من أحاديث موضوعة وقصص مكذوبة منحولة.
ووجهة النظر هذه التي تحذر من مجالسة “القصاص” لا يمكن تعميمها ولا الأخذ بها بإطلاق. فالوعاظ ليسوا كلهم يستخدمون لأحاديث الموضوعة والقصص المنحولة، والوعظ ليس شرا محضا ولا يمكن ذمه بإطلاق، بل إنه لا بد منه لترقيق النفوس وتزكيتها وشحذ هممها وربطها بالخير وترغيبها في المسارعة فيه والاستزادة منه. ودور الواعظ يتكامل مع دور الفقيه، ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما. ونمط الوعاظ الذين ذمهم بعض السلف لا يكاد يوجد اليوم.
ولذلك فإن الإشكال هنا ليس في مضمون ما يقدمه الوعاظ، فهذا المضمون رغم ما قد يكون في بعضه من ملاحظات إلا أنه مقبول بشكل عام، وقد يرقى لدى بعض الوعاظ إلى درجة الممتاز، وهم قلة ! ولكن الإشكال هنا هو كون بعض الوعاظ ممن ليس فقيها يتجاوز دوره كواعظ -يرغب الناس في الخير ويستحثهم عليه ويحذرهم من الشر ويرهبهم منه- حين يتجاوب مع تنصيب العامة له في مقام الفقيه الذي يفتي في عويصات الفقه وفي القضايا التي لو سئل عنها مالك لأمسك!
ولا ننكر أن الواعظ قد يكون فقيها قادرا على الإفتاء وتكييف القضايا فقهيا، أي جامعا بين ملكة الوعظ والاستيعاب الفقهي، وهذا لا يمكن أن ينكر عليه أحد الإفتاء الفقهي، ولا يمكن أن ينكر على الناس طرح إشكالاتهم الفقهية عليه وانتظار الجواب منه. ولكن الواعظ الذي لم يؤت حظا من الفقه ولا له نصيب من معرفة أسرار الشريعة ومقاصدها، هو الذي نعنيه هنا، فهذا النمط من الوعاظ ليس له أن يتصدى لإفتاء الجماهير والاجابة على استشكالاتهم الفقهية.