ما كانت الجهود العظيمة التي اضطلعت بها مدرسة الشيخ مصطفى عبد الرازق (1885- 1947م)، بتفرُّعاتها المختلفة، نبتا شيطانيا لا أصل له في العصر الحديث أو المعاصر؛ وإنما كانت امتدادا طبيعيا لمدرسة الأستاذ الإمام محمَّد عبده (1849- 1905م)، الذي كان بدوره أحد تجليات الاتجاه الإصلاحيِّ التَّجديديِّ الذي أرسى دعائمه موقِظُ الشَّرق جمال الدِّين الأفغاني (1838- 1897م).
وقد خرج من عباءة تلك المدرسة، مدرسة محمَّد عبده والأفغاني، رُوَّاد مختلف الاتجاهات الفكرية الكبرى طيلة ما يُسمَّى بعصر النَّهضة، وفي مقدِّمتها :
– السَّلفية؛ كما هو الشَّأن بالنِّسبة للشَّيخ محمَّد رشيد رضا (1865- 1935م) ومدرسة المنار بصفة عامة.
– الليبرالية؛ كما هو الحال بالنِّسبة لأستاذ الجيل أحمد لطفي السيد (1872- 1963م).
– وزعماء الإصلاح الاجتماعيّ؛ كما هو الشَّأن بالنِّسبة إلى قاسم أمين (1863- 1908م).
– وزعماء الحركة الوطنية؛ كما هو الحال بالنِّسبة للزعيم الوطنيّ سعد باشا زغلول (1860- 1927م).
– ورُوَّاد الاتجاهات الإصلاحية التَّجديدية؛ كما هو الشَّأن بالنِّسبة لكل من: الشَّيخ مصطفى عبد الرازق، ومحمَّد فريد وجدي (1875- 1954م)، وعبد العزيز جاويش (1876- 1956م)، وعبد المتعال الصعيدي (1894- 1966م)، وأمين الخولي (1895- 1966م)، وإبراهيم مدكور (1902- 1995م)، وغيرهم.
على أنَّ القاسم المشترك بين جميع هؤلاء الرُّواد – على اختلاف منازعهم وتعدُّد مشاربهم- كان ممثَّلاً في أمرين رئيسين:
أولهما: التَّحرُّر الفكريِّ من سطوة الجمود والتَّقليد الذي ران على الفكر الإسلامي لقرون عديدة؛ وذلك من خلال تجديد فهْم الدِّين، والنُّهوض بالعقلانية في مختلف مناحي التَّفكير.
ثانيهما: التَّحرُّر السياسيّ من ربقة النُّفوذ الاستعماريِّ والهيمنة الغربية على مقدَّرات الشُّعوب العربية الإسلامية.
كما حاول بعض رُوَّاد تلك المدرسة الخروجَ من ربقة أَسْر الاتجاهيْن المتعارضيْن الذين سادا الحركة الفكرية – ومِن خلفهما الأمَّة العربية الإسلامية- منذ مطلع الهجمات الاستعمارية حتَّى نجاح حركات التَّحرُّر الوطني وتحقيق الاستقلال؛ ألا وهما : تيار الجمود المتحصِّن بالمؤسسات التقليدية العتيقة كالأزهر، والتَّيار التَّغريبيُّ الدَّاعي إلى الاستقلال عن العروبة والإسلام، والتبعية لقوى الاستعمار.
وأبلغ مثال يدلُّ على ذلك، هو قول الإمام محمَّد عبده عن دعوته الإصلاحية التجديدية: “وقد خالفتُ في الدَّعوة إليه [التَّجديد] رأي الفئتيْن العظيمتيْن اللتيْن يتركَّب منهما جسمُ الأمَّة: طلَّاب علوم الدِّين ومَنْ على شاكلتِهم، وطلّاب فنون هذا العصر ومَن هو في ناحيتِهم”.
وإذا كان محمَّد عبده قد خالف أستاذه الأفغانيَّ في آلية النُّهوض؛ فإنَّ مصطفى عبد الرازق يُعدُّ أكثر روَّاد تلك المدرسة إخلاصا ووفاء وشبها بأستاذه الإمام محمَّد عبده. فمن جهة الاتفاق حول الهدف، فإنَّ محمَّد عبده أعلن عنه بالقول: “وارتفع صوتي بالدَّعوة إلى أمريْن عظيميْن:
الأول: تحريرُ الفكر من قيد التقليد، وفهمُ الدِّين على طريقة سلف الأمَّة، قبل ظهور الخلاف، والرّجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه …
أما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التَّحرير.
وكذلك الحال بالنِّسبة للشيخ مصطفى عبد الرازق حين شرع في تلمُّسِّ عناصر النَّظر العقليِّ الإسلاميِّ، وتتبُّع مَدارجه خلال العصور اللاحقة؛ من أجل الوقوف على مدى تقدُّمِه وتطوره. مؤكِّدا أنَّ المسلمين الذين استجابوا لداعي إعمال الفكر والعقل، وأقبلوا على الاجتهاد في مجال الفروع أو الأحكام، ما لبثوا أن تكونتْ لديهم عناصر علمٍ إسلاميٍّ أصيلٍ؛ ألا وهو علم “أصول الفقه” الذي هو في الأساس “علمٌ فلسفيٌّ”، يعدُّ جزءًا أساسيًّا من أجزاء الفلسفة الإسلاميَّة.
وكما أنَّ الأستاذ الإمام محمَّد عبده دخل في جدال مع الغربيين بشأن مسألة التوفيق بين “الدَّين والعلم”، كذلك اشتغل مصطفى عبد الرازق بالجدال معهم بشأن “الفلسفة في الإسلام”. أيضا يشترك كلُّ منهما بإعلان كفرهما بكلِّ ما يمتُّ للسِّياسة بصلة بعد الاشتغال بها! فيُؤثر عن أولهما قولته الشَّهيرة: “لعن الله ساس ويسوس”، ويكتب ثانيهما في تقديمه تحقيق تلميذه علي سامي النشار لكتاب السّيوطي الذي لخّصه عن كتاب “نصيحة أهل الإيمان في الرَّد على منطق اليونان” لابن تيمية، ما نصُّه: “وقد صرفتْني الأقدارُ عن حياةِ المنطق إلى حياةٍ ليْسَتْ بمنطقية”!!
ملمح آخر يشترك فيه الشيخان؛ ألا وهو الاهتمام باللغة العربية وآدابها. أمَّا محمَّد عبده، فآراؤه وجهوده في الإصلاح اللغوي كانت رائدة من دون شك، فقد نهض باللغة العربية والأدب بكتاباته التي أعادت للغة رونقها ورصانتها، وبتحقيقه لأهم كتب التُّراث، ووضعه للمنهج العلميِّ للتحقيق. وأمَّا مصطفى عبد الرازق، فقد كان حريصا على أن يُعَوِّدَ أبناءه – ومنهم من لم يمر بالدَّرس الأزهري- على دراسة المتون والنصوص لما في ذلك من صقل، ومحاولة استخلاص مدلولاتها الصحيحة، ونتيجة لذلك استطاع كثير من تلاميذه أن يكون لهم أسلوب عربي سليم بجانب تمكُّنهم من لغات أجنبية.
أخيرًا، وليس آخرًا، يشترك الشيخان الجليلان في ملمح لا نكاد نجده في أساتذة الجامعات العربية! ألا وهو: العناية البالغة بالتلاميذ، مع ما يصحبها من أدب الرعاية ودماثة الخلُق. وليس أدلّ على ذلك من أنَّ البعض رأى في الإمام محمَّد عبده أنَّه أكثر النَّاس شبهًا بالنَّبي محمَّد ﷺ. أمَّا مصطفى عبد الرازق، فيكفي ما يرويه عنه الدكتور إبراهيم مدكور في كتابه “مع الأيام” حيث يقول: “ورحم الله مصطفى عبد الرازق الذي كان نموذجا يُحتذى به في هذا المجال، لقد كان حقا شيخَ مدرسة، وكبيرَ أسرة مُتشعِّبة، أحبَّه تلاميذه وسعدوا دائما بلقائه، وأفادوا من نُصحه وتوجيهه، وكم وكَل إليهم أعمالا كان يحبُّ أن يتولَّاها، فأعطاهم نصوصا مخطوطة لكي يقوموا بتحقيقها ونشرها، وفتح أمامهم أبوابَ دراسات اضطلعوا بها، وقد خلَّف فعلا مدرسة غزيرة العطاء متنوعة الإنتاج”.
ونأمل أن نعرض لامتدادات هذه المدرسة الكبيرة في مقال لاحق.