هل السفر مجرد انتقال من مكان إلى آخر، أم نافذة لاكتشاف الذات والعالم؟  

لطالما اعتبر السفر في التراث الإسلامي والإنساني أكثر من مجرد عبور جغرافي، بل رحلة نحو آفاق رحبة من الإدراك، وصقل لمهارات التفكير، وآلية تهذيب للنفس، وفهم أعمق للذات والآخر في آنٍ واحد. 

 في هذه المقالة، أنطلق من تجربة “مرتحل مسلم” يشارك تأملاته حول علاقة السفر بالثقافة، وكيف يُسهم التنقل بين البلدان في إعادة تشكيل وعينا وهويتنا كمسلمين. 

السفر عبادة التأمل 

قبل أن نخوض في العلاقة بين السفر والثقافة، من المهم أن نتأمل في النظرة الإسلامية للسفر. فالقرآن الكريم ذكر السفر في سياقات متعددة، منها ما هو دعوة صريحة للتدبر واكتشاف سنن الله في الخلق، وحث على التفكير في هذه الأرض التي نعيش عليها وما تحمله من دلائل.

قال تعالى : {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (العنكبوت: 20). جاء في تفسير السعدي :” {سيروا في الأرضِ}: بأبدانِكم وقلوبِكم، {فانظُروا كيف بَدَأ الخَلْقَ}: فإنَّكم سَتَجِدون أمماً من الآدميين والحيواناتِ لا تزال توجد شيئاً فشيئاً، وتجدون النباتَ والأشجار كيف تحدُثُ وقتاً بعد وقت، وتجدون السحاب والرياح ونحوها مستمرَّةً في تجدُّدها، بل الخلق دائماً في بدءٍ وإعادةٍ” (1) 

وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } (الحج: 46) . وفي هذه الآية يقول الشيخ السعدي – رحمه الله – :دعا الله عباده إلى السير في الأرض لينظروا ويعتبِروا، فقال: {أفلم يَسيروا في الأرض}: بأبدانهم وقلوبهم؛ {فتكون لهم قلوبٌ يعقِلونَ بها}: آياتِ الله ويتأمَّلون بها مواقع عِبَرِه” (2). 

وآيات أخرى كثيرة تعلمنا أن السفر في ثقافة المسلمين وسيلة للنظر والتفكير؛ ونافذة لمعرفة تاريخ وأنماط حياة الأمم المختلفة. هذه الرؤية تمنح المسافر المسلم بعداً أخلاقياً ومعرفياً فريداً، وتجعله يتعامل مع التجربة كفرصة للتأمل.  

في السفر تحقيق لمفهوم الثقافة 

الثقافة، من منظور إنساني عام، هي مجمل المعارف، والقيم، والعادات، واللغة، والرموز التي تنتجها جماعة بشرية ما وهي ليست تراكماً ميكانيكياً، بل بنية حية تتشكل وتتطور بالحوار مع الآخر، ويعتبر السفر أحد أشكال هذا الحوار حيوية من ناحية التفاعل المباشر مع كل عناصر الثقافة. 

ويوضح نصر جمال عارف  أحد أبعاد مفهوم الثقافة الخاصة باللغة العربية بقوله : “إن مضمون مفهوم الثقافة في اللغة العربية يعني البحث والتنقيب والظفر بمعاني الحق والخير والعدل، وكل القيم التي تُصلح الوجود الإنساني وتهذبه وتقوم اعوجاجه” (3) 

من خلال السفر، يتعرض الإنسان لثقافات مختلفة في الطعام، واللباس، واللغة، والفنون، والطقوس الاجتماعية والدينية. هذه المواجهة المباشرة ربما تُحدث صدمة في وعي المسافر؛ فإما أن تُقوي فهمه لثقافته ويُعمّق تقديره لها، أو تدفعه لطرح أسئلة جديدة وفتح باب الحوار. وفي كلتا الحالتين، سيخرج المسافر بثقافة أوسع وتعلم دروس جديدة تشبع فضوله المعرفي. 

تحديات السفر للمسلم 

لقد واجهت دوماً – كمرتحل مسلم – سؤال التوازن بين الانفتاح الثقافي والثبات على الهوية. كيف أكون منفتحاً على الآخر دون أن أفقد ذاتي وهويتي ؟ وهل الانبهار بالمظاهر الحضارية للغرب، أو التقاليد العريقة في آسيا، يعني التنازل عن ثوابتي الدينية والأخلاقية؟ 

تجربتي الشخصية علمتني أن الإسلام لا يطلب من أتباعه الانغلاق أو الانعزال، بل يدعو إلى التفاعل الواعي والمُبصِر. يقول النبي : “الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها” (رواه الترمذي). هذا الحديث يفتح أمام المسلم أفقاً لا حدود له في طلب المعرفة أينما وُجدت، دون أن يتنازل عن مصدر هويته. 

لقد زرت أكثر من ثمانين بلداً، من أرياف إندونيسيا إلى شوارع ليما (البيرو)، ووجدت أن الانفتاح الحقيقي لا يعني الذوبان، بل فرصة للحوار والتفاعل الحضاري مع مختلف الثقافات دون الانكسار أمامها. 

قد تواجه تحديات كالبحث عن الطعام الحلال، أو مكان للصلاة، أو أسئلة محرجة عن دينك. لكن هذه التحديات، بحد ذاتها، تُصبح جزءاً من رحلة الصقل؛ فهي تُقوي عزيمتك، وتُعمق فهمك لذاتك، وتُعلمك المرونة والتكيف مع الثبات على المبادئ. 

السفر مرآة الذات الثقافية 

أحد أعظم دروس السفر التي تعلمتها من خلال الحوارات مع مختلف أطياف البشر هي اكتشاف الذات الثقافية. فعندما تجد نفسك تشرح “لماذا تأكل بيمينك؟” أو “لماذا ترفض الخمر في الحفلات؟” أو “لماذا تحرص على الصلاة حتى في قطارات اليابان؟” تبدأ بفهم مختلف لثقافتك، ثم تكتشف أن ما ظننته  في يوم ما “تفاصيل عادية” ماهو إلا ارتباط وثيق بالهوية العربية الإسلامية. 

وبالمقابل، حين ترى أن احترام الوقت في ألمانيا ليس مجرد صفة فردية بل قيمة ثقافية، أو أن الضيافة في المغرب ليست فقط عادة بل أسلوب حياة، تتسع رؤيتك للعالم، وتدرك أن الثقافة ليست حكراً على شعب دون آخر، بل هي مشترك إنساني بقدر ما هي خصوصية محلية. 

الثقافة الإسلامية في عين الآخر 

من أغرب المفارقات التي واجهتها كمسلم مرتحل، عندما كنت أجيب عن أسئلة تدور حول صور وأنماط معينة من الثقافة الإسلامية، على سبيل المثال طريقة السلام، الحرص على الحياء والاحتشام، الاعتذار بلطف، احترام الوقت، عدم التدخل في شؤون الآخرين، الصدق في التعامل، كلها رسائل ثقافية أغنتني عن تقديم بطاقة تعريف وقول: “أنا مسلم”.  

هنا يُدرك المرء أن السفر فرصة لعرض حضارة الإسلام من خلال التفاعل مع مواقف الحياة اليومية لا عبر “الخطاب المباشر” وتلك من أنجح وسائل التأثير. 

السفر كأداة لتفكيك الصور النمطية 

أحد الأدوار الكبرى التي يلعبها السفر في عالم اليوم، هو تفكيك الصور النمطية. فالمجتمعات الحديثة، رغم تطورها، لا تزال أسيرة الأفكار المسبقة عن الآخر، خاصة عن المسلمين. ويمكن للسفر أن يشكل أحد وسائل تجسير هذه الهوة وكسر تلك القوالب الجامدة. 

أذكر في إحدى رحلاتي إلى أوروبا الشرقية، سألني شاب من تلك البلاد : “هل صحيح أن المرأة في الإسلام لا قيمة لها؟” 

سألته بلطف: “هل تراني إنساناً محترماً؟” 

قال: “نعم”. 

قلت: “أمي امرأة. وزوجتي امرأة. وابنتي امرأة. فكر جيداً، من أعطى هؤلاء حقوقهن وقيمتهن؟ إنه ديني الإسلام.” 

كان هذا الموقف كافياً ليهزّ قناعاته المسبقة، ويفتح معه حواراً استمر أياماً، هذا ما أعنيه بالسفر كأداة ثقافية لا تكتفي بالمشاهدة، بل تصنع أثراً. 

بناء الإنسان المتزن 

في النهاية، يتضح أن العلاقة بين السفر والثقافة ليست سطحية أو مؤقتة، بل هي علاقة جوهرية تُسهم في بناء المسلم المتزن: 

  1. المنفتح دون تفريط. 
  2. الثابت دون تصلب. 
  3.  المحاور لا المنعزل. 
  4.  الفخور بهويته لا المتعالي على الآخرين. 

السفر يحرّر المسلم من وهم امتلاك الحقيقة المطلقة، دون أن يُفقده اليقين بما يؤمن به. يجعله يقدّر تنوع الخلق، ويبحث عن القيم المشتركة، ويُنمّي عقله وحسّه وذائقته الجمالية. 

خاتمة 

في عالم مشحون بالصراعات الثقافية، ومطبوع بسطحية الإعلام وسرعة الأحكام، يأتي السفر ليعيد تشكيل وعينا، ويمنحنا تجربة حيّة تخرجنا من ضيق الأفق إلى رحاب المعرفة. وكمسلم مرتحل، أؤمن أن السفر ليس ترفاً، بل وسيلة لحمل ثقافة أصيلة تسعى للحوار مع الآخر وفهمه، وتساهم في بناء جسور التفاهم الإنساني، فلتكن كل رحلة لنا فرصة لنكون خير سفراء لديننا وثقافتنا.