رسخت جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي حضورها العالمي في دورتها الحادية عشرة لعام 2025، بوصفها واحدة من أبرز الجوائز العالمية في هذا المجال، مكرمة نخبة من المترجمين والمؤسسات فنيابة عن صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، توج سعادة الشيخ ثاني بن حمد آل ثاني، نائب رئيس مجلس أمناء هيئة متاحف قطر، الفائزين بالجائزة في حفل مهيب أقيم بالعاصمة القطرية الدوحة مساء الثلاثاء التاسع من ديسمبر 2025م.
تميزت هذه الدورة باعتماد ثلاث لغات رئيسة هي الإنجليزية والألمانية والتركية، إلى جانب لغتين من اللغات الأقل انتشارا، الألبانية والتايلندية، في إطار إستراتيجية موسعة تهدف إلى الاحتفاء بالتنوع اللغوي والثقافي، واستقبلت الجائزة مشاركات من 32 دولة شملت جميع اللغات المعتمدة هذا العام، كما نظمت الجائزة جولات ميدانية شملت عددا من المدن الألمانية ودول البلقان (كوسوفو وألبانيا ومقدونيا)، بهدف توطيد العلاقات مع المؤسسات الأكاديمية والثقافية، والتعريف بمشاريع الترجمة والتعريب المختلفة، وبحث آفاق التعاون المستقبلي في مجالات الترجمة وتعليم اللغة العربية وصون التراث الإنساني المشترك.
شهدت فئة الترجمة من الألمانية إلى العربية تتويج مترجمين أسهموا في نقل نصوص ذات أبعاد معرفية متعددة. تقاسم المركز الثاني كل من محمد أحمد أبو زيد وعمر الغول عن ترجمتيهما لكتابي العمل والعادات والتقاليد في فلسطين” و”القدس ومحيطها الطبيعي”، وكلاهما للمستشرق الألماني غوستاف دالمان، ما يعكس اهتماما بالدراسات التاريخية والأنثروبولوجية للمنطقة العربية. وحصد المركز الثالث هارون أحمد سليمان عن ترجمة “زمن السحرة: العقد الذهبي للفلسفة 1919-1929” لفولفرام آيلنبيرغر، في دلالة على نقل المسارات الفلسفية الأوروبية إلى القارئ العربي.
وفي الاتجاه المعاكس، من العربية إلى الألمانية، حصدت المترجمة لاريسا بندر المركز الأول عن ترجمتها لرواية “القوقعة.. يوميات متلصص” للكاتب السوري مصطفى خليفة، لتضع الأدب العربي المعاصر برواياته الجريئة في قلب المشهد الثقافي الألماني، وتفتح نوافذ جديدة على تجارب الشرق الأوسط الأدبية.
أظهرت فئة الترجمة من التركية إلى العربية اهتماما بالدراسات التاريخية والفكرية، حيث فاز محمد عبد العاطي بالمركز الثاني عن ترجمة “عصيان محمد علي باشا” لشناسي آلتونداغ، ما يعكس حوارا تاريخيا حيا بين الثقافتين، بينما نال عبد الرزاق محمد حسن بركات المركز الثالث عن ترجمة “تاريخ الفكر التركي المعاصر” لحلمي ضيا أولكن.
وفي الاتجاه المعاكس من العربية إلى التركية، فاز بالمركز الأول كل من داوود إلطاش عن ترجمة “مرآة الأصول في شرح مرقاة الوصول” للملّا خسرو، ومحمد يوشع أوزمن عن ترجمة “أهل السنة والجماعة: مقالة في النشأة والظهور” لبشير موسى نافع، في إطار نقل الموروث الفقهي الإسلامي إلى قراء أتراك معاصرين. وجاءت أليف باغا في المركز الثاني عن ترجمة “الممتع في شرح المقنع” لشهاب الدين ابن الهائم المقدسي، وجاهد شنل في المركز الثاني المكرر عن ترجمة “جوامع السماع الطبيعي” لابن رشد، بينما حل مصطفى إسماعيل دونميز ثالثا عن ترجمة رواية “زمن الخيول البيضاء” لإبراهيم نصر الله، في مزج بين التراث الفلسفي الأصيل والأدب الروائي الحديث.
واحتفت فئة الترجمات إلى الإنجليزية بالنصوص التاريخية والفكرية ذات الأهمية الحضارية، ففاز بالمركز الثالث في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية كل من حمادة حسانين ويانز شاينر عن ترجمة كتاب “فتوح الشام” للأزدي، معيدين نصا تاريخيا مركزيا إلى التداول العالمي، في المقابل نال محمد عبده أبو العلا المركز الثالث في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية عن ترجمة كتاب “حدود الليبرالية التراث والنزعة الفردية وأزمة الحرية” لمارك تي ميتشل، وحصل خليل محمد عثمان بودوفو على الجائزة التشجيعية.
فئة الإنجاز وتكريم المؤسسات
توسعت الجائزة لتشمل مؤسسات أسهمت في خدمة الترجمة والتعريب على مدى سنوات. وذهبت جائزة فئة الإنجاز للغة الإنجليزية إلى مركز نماء للبحوث والدراسات. وفي التركية، تقاسمت الجائزة بين دار بقاء ووحيد الدين إينجا، ودار أنقرة أوقولو. أما في فئة الإنجاز للغة الألمانية، فاز معهد الدراسات الشرقية بجامعة لايبزيغ، معترفا بدوره التاريخي في الدراسات العربية الأكاديمية.
وفي اللغات الأقل انتشارا، حصدت جائزة الإنجاز للغة التايلندية كل من أمنواي أفندي بوكر أجين، وجمعية خريجي الجامعات والمعاهد العربية بتايلند، وأرون جلال الدين (بون شوم)، في دلالة على وجود شبكات حية من الدارسين والمترجمين في جغرافيا بعيدة عن المركز التقليدي. وعن اللغة الألبانية، كرم كل من محمد م. الأرناؤوط ودار “لوغوس-أ” وفيتي مهديو وقسم الدراسات الشرقية بجامعة بريشتينا (كوسوفو) وسليمان تومتشيني، في شهادة على تفاعل ثقافي مستمر بين العالم العربي والبلقان.
الترجمة في مواجهة تحديات العصر
في كلمته خلال الحفل، أكد الدكتور حسن النعمة، الأمين العام للجائزة، على المكانة السامية التي تحتلها الجائزة في مسيرة الثقافة الإنسانية، بوصفها جسرا للتواصل بين الشعوب، ومنارة تضيء دروب الأدب والعلم والفن، مستلهمة نهج الأسلاف الذين شادوا صروح الحضارة وخلدوا أسماءهم في ذاكرة التاريخ بما أبدعوه من فكر ومعرفة. كما وجه الدكتور النعمة أصدق كلمات الشكر والعرفان إلى الكتاب والعلماء الذين أسهموا بعلمهم وترجماتهم في إنجاز هذا المشروع الثقافي الكبير، مثمنا جهود القائمين على الجائزة الذين يسهرون عاما بعد عام على إنجاحها وإخراجها في أبهى حلة، لتظل عنوانا للفكر المستنير، وهدية تهب العالم إشراقا وسعادة، وتضيف إلى المشهد الإنساني مزيدا من الجمال والرقي.
ركزت كلمة المترجمين التي ألقتها المترجمة الألمانية المتخصصة في الأدب العربي لاريسا بندر، على واقع مرير وتراجع التقدير المادي والمعنوي للمترجمين، والذين غالبا ما ينجزون عملهم في الظل بعيد عن الأضواء، مشيرة إلى فتور دور النشر والإعلام الألماني في الاهتمام بالأدب العربي، الأمر الذي يحد من انتشار الأصوات العربية ويضعف فرص فهم أعمق للمنطقة. وحذرت من الاعتماد المتزايد على الترجمة الآلية والذكاء الاصطناعي، مؤكدة ضرورة الحفاظ على قيمة الترجمة البشرية.
ندوة الترجمة والذكاء الاصطناعي
بالتوازي مع الحفل التكريمي، نظمت الجائزة ندوة علمية بعنوان “الترجمة والذكاء الاصطناعي”، ناقشت فيها نخبة من الأكاديميين والمتخصصين تحديات المهنة وفرصها في العصر الرقمي.
استعرض الدكتور مصطفى جرار، أستاذ الذكاء الاصطناعي في جامعة حمد بن خليفة، الأدوات المعجمية المفتوحة المصدر والموارد الحاسوبية التي تدعم الترجمة العربية، من محركات البحث المعجمية الضخمة إلى الانطولوجيات الدلالية، مما يفتح آفاقاً جديدة لدعم عمل المترجم البشري.
وتناول الدكتور غسان مراد من الجامعة اللبنانية الفجوة المعرفية التي تواجه المحتوى العربي ومحدوديته في الفضاء الرقمي مقابل عدد الناطقين بها، وانعكاس ذلك على التعليم والبحث العلمي، داعيا إلى تطوير مسارات الترجمة العلمية والتقنية لسد فجوات العدالة المعرفية وتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي ببيانات عربية عالية الجودة.
واختتم الباحث عبد الحق الزموري، المدير العام لمؤسسة أبعاد للدراسات المستقبلية بواشنطن النقاش مؤكدا على نقطة استمرار عمل المترجم البشري لأنه الضامن الحقيقي لدقة “هوية المعنى” التي قد تعجز الآلة عن استيعابها، خاصة في النصوص الفلسفية والأدبية ذات البنى المفتوحة والحمولات الثقافية العميقة.
