الابتلاء هو سُنَّة الله تعالى في الأرض منذ زمن سيدنا آدم عليه السلام، وإلى قيام الساعة، وما من إنسان إلا وهو مُبتلًى بشيء ما، والحياة لا تخلو من كَدَرٍ وألم وحزن، ومرضٍ وفقر، وجوع وظلم، ولا شكَّ أن هناك صعوباتٍ يمكن للإنسان تجنُّبُها بأخذ الحَيطة والحذر، والبعد عن المخاطر ونحوها، ولكن هناك الكثير منها ليس لها واقٍ يحجُبنا منها إذا أراد الله حدوثها، فأمرُه تعالى نافذٌ في خَلْقِهِ، وما كتَبَهُ صائرٌ لا محالة، حتى لو حاول الإنسان تجنبها؛ لذا لا يَسَعُهُ إلا تحمُّلُها واجتياز آلامها.
قال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [التغابن: 11]، وتجاوُزُ الأزَمات من الموضوعات المهمة؛ لأن فيه البحثَ عما يساعد الناس على تجاوز صِعابهم، واستعادة التوازن والاستقرار بعد المصائب والابتلاءات التي تمرُّ بهم، وكأنه ترميم وصيانة لحياة الإنسان بعدما تهدَّمت، ومَن مِنَ الناس لم تُصِبْهُ مصيبة ولو مرةً في حياته؟ فالكل فيها مرَّ ببلاء قلَّ أو كثُر، طال أو قصر، ولما كان للمصائب أثرٌ كبيرٌ على الناس، كان البحث في هذه الأمر ذا فائدة كبيرة لهم، وسنبدأ بالتأمل في هذه الابتلاءات وأسبابها، واستشفاف لطف الله تعالى فيها، ثم فيما يساعد على تجاوزها.
سبب البلاء والابتلاء
الله تعالى يمتحن عباده بالابتلاء؛ ليرى مدى صبرهم على أقداره، ويَمِيزَ المؤمن من المنافق، والصابر من المتسخِّط على أقداره، ومن البلاء ما يقع عقوبةً للناس على المعاصي، أو بمثابة تذكير لهم ليرجعوا ويتوبوا عن المعاصي؛ قال تعالى: { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الروم: 41]، وقال: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ } [هود: 7].
لُطْفُ الله في قضائه
ولله الحمد فإن هذه المصائب والابتلاءاتِ لا تنزل على الناس جملةً، بل تكون متفرِّقة بين الأزمان إلا ما نَدَرَ، وتجد الناس تتغير أحوالهم من حزن إلى فرح، ومن غِنًى إلى فقرٍ، ومن فتنة إلى صلاح، ومن بَردِ عيشٍ إلى حرِّه، وهكذا، ونزول هذه المصائب يكون بقدَرٍ وحكمة، والحمد لله أننا نرضى بما قُسِمَ لنا، ولا يَسَعُنا أن نتسخَّطَ أو نكفر بنعمته؛ فأفضاله تعالى تُغرِقنا في النِّعَمِ التي لا نشعر بها، والحمد لله أن أيام الفرح أكثرُ كثيرًا من أيام الحزن عند غالب البشر، وأنه تعالى يتلطف بنا في أقداره، فيُلهمنا الصبر، ويرزقنا البدائل بعد الفقد، ويُطيِّب جروحنا، ويجبُر ما انكسر من نفوسنا مع الوقت، عاجلًا أو آجلًا.
وهو تعالى الرَّفيقُ في المصائب، فليس لنا ربٌّ سواه نلجأ إليه، وليس لنا من يواسينا إن تفرَّق الأحباب، وأنكرنا الأصحاب، بعد أن أدبَرَت عنا الدنيا، أو أصابنا ما أصابنا من مُلمَّاتها، وهو تعالى الرؤوف الرحيم الذي يُحيطنا بحنانه الربانيِّ، وهو أرحم بنا من أمَّهاتنا، وهو مع كل ذي شدة وعُسْرٍ، ومع اليتامى والمنكوبين، وأصحاب الحروب والمجاعات، وهو مع المظلومين وكلِّ من اغتُصِبت حقوقه وضاعت بين الأنام؛ قال تعالى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } [الأحزاب: 43].
تنوُّع البلاء
يتنوع البلاء ويختلف بين البشر؛ فمنهم من فَقَدَ عزيزًا، ومنهم من فقدَ مالًا، ومنهم من هُدم بيته، ومنهم من انتُهِكَ عِرْضُه، ومنهم من احترق بنار الظلم وشظايا البنادق والدبابات، والكل يتألم لا سيما في هذه الحقبة التي يمر بها المسلمون؛ حيث انتشر الظلم والوحشية ضدهم في بقاع الأرض وضواحيها، وصاروا فريسةً سهلة للبنادق والسجون، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت حتى صار بعضهم يتمنى الموت للخلاص مما يمر به من ظُلمٍ وعذاب، وللأسف أن من بينهم مَن يقوِّي شباك الشرِّ، ويُعين الأشرار عليهم، فضاعت الأمانة، وانتشر القتل والهَرْجُ والْمَرْجُ، واشتدتِ الفتن والمصائب على كثيرٍ من المسلمين.
بينما يرتع بعضهم في البَذَخِ والثَّراء الفاحش، وجاع الناس، ويُتِّم الأطفال، وهُدِّمت المنازل، وقُطعت الأشجار، وعمَّت الأرض فوضى لا مثيل لها في تاريخ البشرية، وكل هذا يشير إلى اقتراب الساعة. كما أخبرنا نبينا الكريم ﷺ في قوله: “لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، وتكثُر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهَرْجُ، وهو القتل، وحتى يكثُرَ فيكم المال فيفيض، حتى يُهِمَّ ربَّ المال مَن يقبل صدقته، وحتى يَعرِضه عليه، فيقول الذي يعرضه عليه: لا أَرَبَ لي به، وحتى يتطاول الناس في البنيان، وحتى يمرَّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه” [البخاري (7121).].
الابتلاء بالخير والشر
والبلاء قد يكون بالخير أو الشر، ومعرفة نوع البلاء يساعد على التغلُّب عليه ومواصلة الحياة؛ قال تعالى: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35]، فمن الناس من يمتحنه الله بالمرض أو الجوع أو الفقر، وهذا ليس له إلا الصبر؛ إذ لا منجى له، ولكن في المقابل فإن أكثر الناس مُبتلًى بالنعمة، وهؤلاء عادة ما يكون امتحانهم أصعبَ؛ حيث يسهُل على الإنسان نسيانُ شكرِ النعمة، بينما يصعب على المُبتلى نسيانُ الرضا بقضاء الله؛ حيث لا مخرج له سواه؛ وذلك لأنه يمرُّ بشدة وطبيعة البشر تذكُّر الله، والرجوع إليه عند الشدائد.
هذا بالإضافة إلى أن الكثيرَ ممن ابتُلوا بالخير لا يدركون أنهم في امتحان، وأن الله تعالى يراقبهم، وبعضهم يدركون ولكن لا يكترثون؛ ففتنة المال شديدة عليهم تجعلهم يبيعون الآخرة وهم يعلمون؛ قال تعالى: { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا } [الإسراء: 67]، وقال عن نسيان النعم: { وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ } [الشورى: 48].
ما يساعد على تجاوز البلاء
من الابتلاءات ما يكون وقعُه شديدًا على صاحبه، وكم من أناس ضاعوا في الأزمات، وفَقَدُوا دينهم ودنياهم؛ فمنهم من وقع في الاكتئاب، ومنهم من قتل نفسه، ومنهم من تسخَّط على أقدار الله، ومنهم من كفر به وبرسوله، وتَرَكَ الإسلام برُمَّتِهِ؛ ولذا من المهم البحث عما يساعد الناس على تجاوز المحن من حنايا الكتاب الكريم والسنة الشريفة، ومن تجارِب الناس وما تعارفوا عليه، وهناك أمور تُعين على الصبر وتحمُّل المصيبة، والرجوع للسير على درب الحياة، وتجاوُز المحن بسلامٍ، دون الوقوع في مِطبَّات الشيطان وضلاله.
الإيمان بالقضاء والقدر
الإيمان بالقضاء والقدر من أكثر ما يساعد على تجاوز الأزمات، فالتسليم لله ولأقداره والإيمان بأنه لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا يَضَعُ الإنسان أمام الأمر الواقع، ويهوِّن عليه الأمر، ويجعله يدرك أنه ليس في يده شيء، ولا في مقدوره ردُّ هذا البلاء؛ إذ هو أمرُ العزيز الجبَّار فيه، الذي لا يستطيع مخلوق الوقوف أمامه أو منع حدوثه.
قال ﷺ: ” واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام، وجفَّتِ الصحف” [صححه الألباني في صحيح الترمذي (2516)]، وقال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحديد: 22]، فإنْ تجاوَزَ المرء ذلك ورَضِيَ به، استطاع تخطِّيَ كل المصائب والآلام التي تمر به بسلام، دون الوقوع في كبائر الذنوب؛ من السخط والكفر والرِّدَّة، وربما الانتحار.
استغلال الفرص ووضع الأمل بالله
مما يساعد على تخطِّي الأزمات النظرُ للأمام، وترك الماضي، والبدء من جديد، ووضع الأمل في الله، فذلك يهوّن ويسهّل على الْمُبتلَى السيرَ للأمام وليس للخلف، فليحمد الله تعالى بأنه لا يزال على قيد الحياة، وأن الحياة أمامه طويلة ومليئة بالفرص والأحلام، وأنه لم يمت ولم يدخل القبر، فلديه فرصة التوبة مثلا وأنه لا يزال بصحته فلديه فرصة العمل والإبداع، والبداية من جديد، والتعلُّم من الفشل والأخطاء السابقة.
وليتفكر لو أن جزءًا من ماله قد ضاع، فلديه الباقي ليبدأ به، ولو أن واحدًا من أولاده مات، فلا يزال لديه البقية، ولو أنه فَقَدَ عمله، فلا يزال لديه الخبرة التي كسبها، وسيبحث عن عمل جديد حتى يجده وأنه والحمد لله أننا ما دُمْنا على قيد الحياة، فلا تزال لنا فرصة وفرصة لترميمها.
تذكُّر الموت
تذكُّر الموت يساعد على تجاوز الأزمات؛ وذلك لأننا نعلم من ديننا باليقين أن هذه الحياة مؤقتة، وليست دائمة، وأن ما بعدها هي الحياة الأبدية التي نرنو لها، وأن وجودنا في الدنيا سينتهي بموتنا الذي قد يدنو أو يبعد ولكنه آتٍ، وكل ما في الأرض مؤقت ولن يذهب معنا؛ قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185]، فلم يذكر أن نَيلَ ما في هذه الدنيا من نجاح أو متاع يجعل المرء من ضمن الفائزين، بل ذَكَرَ أن الفوز الحقيقي هو دخول الجنة والنجاة من النار.
وهذا يجعلنا نستنتج أنه ليس هناك ما يستحق الفرح الدائم ولا الحزن الدائم؛ إذ ما خسرنا في الدنيا سنخسره حتمًا بالموت، وكذلك ما نكسبه من نجاح فيها؛ ولذا فإن الفقد فيها والحزن يخِفُّ وينتهي بمرور الوقت، وكذلك كل سعادة فيها ما لم تكن في رضوان الله، فإنها لا تستحق الفرح الدائم؛ لأنها مؤقتة ومحفوفة بالابتلاءات والمصاعب، ومُعرَّضة لزوال النعم وضياعها؛ ولذا لا ينبغي أن يكون ما يحدث في هذه الحياة هو أكبر آمالنا؛ لأنها ليست موطنًا لنا، وإنما نحن عابرون فيها إلى دار القرارز
وقد بيَّن الله تعالى هذا المبدأ في قوله تعالى: { لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [الحديد: 23]، بلى، هي كما قال ربنا سبحانه متاع الغرور؛ لأنه لا خير فيها يدوم مهما كان، ما دام أن الكل فيها ذاهب منها، فالموت حقٌّ على كل إنسان، ومعه يذهب كل شيء إلا العمل الصالح، والأثر الطيب الذي ينفع الناس، إن صحَّت فيه النية.
التيقُّن أنه ليس المبتلَى الوحيد
لو نظر الإنسان إلى الآخرين لا بد وأنه سيرى مُبتلَين مِن حوله، وربما أكثر منه، وهذا غير ما لا يظهر له بالعيان، وكم من مبتلًى لا يظهر عليه شيء، ولا تجده يشكو همَّه لأحدٍ! لأنه يحتسب الأجر عند الله ويصبر ولا يتذمر، وهذا فيه تسلية له، فهو ليس الوحيد من يعاني، بل هناك الملايين من البشر يعانون مثله أو أكثر، وليس البلاء مقتصرًا على المسلمين فحسب، بل هناك أمم من الكفار يعانون الأمرَّين في هذه الحياة من جرَّاء الظلم والمرض، والفقر والألم وغيره، وليس لهم في تحمُّلهم وصبرهم أجرٌ، بل نهايتهم سوداء في نار جهنم إن ماتوا على الكفر، وهؤلاء يعانون في الدنيا من البلاء، ثم في الآخرة من مصائرهم الفظيعة التي تنتظرهم.
ما يكون بلاءً لأحدهم قد يكون نعمة لغيره
ويختلف الناس في صور البلاء التي تُصيبهم وطريقة تلقِّيهم لها، وقد يكون وضع أو شيء ما نعمةً عند إنسان، ولكنه بلاء عند إنسان آخر؛ وذلك لأن البشر يتفاوتون في المقدَّرات والرغبات والصفات التي فطرهم الله عليها، فمثلًا: تجد أن وظيفة الزراعة تناسب بعض الناس ويرونها نعمة، وهم سعداء بها، بينما يراها آخرون متعبة ولا تناسبهم، وتُهلكهم بدنيًّا وروحيًّا، وهي عليهم شقاء ولكنهم مضطرون إليها.
ومثال آخر: أن يرى أحدهم أن السفر والتغرب لبلد غنيٍّ للعمل نعمة يتمنَّاها ويحلم بها الكثيرون، بينما هناك من جرَّبها ووجدها مؤلمة له، وتمنَّى لو كان يستطيع العيش في وطنه حتى ولو عاش فقيرًا، ومثال له أن شخصًا يعمل في مدينة بعيدة من بيته الذي اشتراه، وصار يضيع وقتًا طويلًا ليصل لعمله في مدينة أخرى كل يوم؛ وذلك لأنه لم يجد عملًا في مدينته، وبعد سنين تعِب من هذا الوضع، وشعر بأن هذا البيت عليه نقمة؛ لأنه يربطه بمكان بعيد عن أي عمل، فباعه لجاره الذي يملك مزرعة مجاورة ورَحَلَ، فاستفاد هذا الجار من البيت كثيرًا، وزاد إنتاجه لقربه من المزرعة، فكان هذا البيت نعمة للمشتري بخلاف البائع.
ومثال أخير: أن رجلًا طلَّق زوجته بعد زواج دام عدة سنوات؛ لعدم إنجابها، فتزوجت غيره، ورزقها الله بمولود منه، وكذلك زوجها الأول تزوج ورزقه الله بمولود من زوجته الثانية، وهكذا فإن ما يكون نعمة عند البعض قد يراه آخرون بلاء.
تغيير الأوضاع
واختلاف الناس هذا في رؤية الأشياء نعمةً أو بلاء في حد ذاته فيه خير لهم، وبه يسهُل ترميم الحياة، وإعادة البدايات، وتغيير الأوضاع، ونجاح التجارب الجديدة، فمن لم يفلح في الزراعة، يفلح في غيرها، ومن لم ينجح في الغربة، يمكنه الرجوع لبلده، والبداية من جديد، مع الاستفادة مما اكتسبه من خبرات هناك، ومن لم تنجح في زواجها الأول يمكنها أن تنجح مع غيره، وهكذا هي الحياة تختلف فيها ظروف الناس وما يصلح لهم؛ ولذا لم يَضَعِ الله تعالى الأوضاع نفسها لكل البشر، بل جعلهم مختلفين فيها، وفي الأقدار التي كتبها لهم.
وللسبب نفسه جعل هناك فقراءَ وأغنياءَ، ومرضى وأصحَّاءَ، وشُرَفاءَ ووُضَعاءَ، وغيرها من المفارقات التي نراها، وقد تكون هذه النظرة حلًّا للسؤال الذي يتبادر إلى أذهان كثير من الناس؛ وهو لِمَ لَمْ يوزِّع الله تعالى الأرزاق بالتساوي على الناس؟ وقد تسخط بعضهم، ولم يرضَ بقدر الله له، ووصل به الأمر لأن أهلك نفسه بالتطاول عليه وسبِّه، والنطق بالكفر، أو قتل نفسه وأطفاله، أو أذًى من حوله، ولو أنه نظر فيما حوله وتفكَّر في أحوال الناس، لَما تسخط على شيء، بل لَحمِدَ الله تعالى بأن أعطاه ما يناسبه.
وجود المواسِينَ
مما يُعين على تجاوز الأزمات وجود المواسين حول الْمُصاب واحتواؤهم له؛ لذا ينبغي على المسلمين أن يتعاونوا ويُحيطوا أصحاب المحن بالرعاية والحنان، حتى يستطيعوا تحمُّل الأزمات والوقوف على أرجلهم من جديد، فالمحن تَهُون بمواساتهم، وتصعُب عند غيابهم؛ ولذا نجد الإسلام يحُثُّ على الجماعة والتعاون، والبر والصلة، كما حثَّ على العبادات التي تخفف عن ذوي البلاء؛ مثل: زيارة المريض، وصلاة الجنازة، وكفالة الأيتام، والكلمة الطيبة، وغيرها مما يخفف عن المسلمين.
قال ﷺ: “مثَلُ المؤمنين في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى” [أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586)]، وهذه من أهم الخطوات على تجاوز المحن؛ ولذا الأفضل لصاحب المصيبة ألَّا ينزويَ بحاله، ويعزل نفسه عن المسلمين، كما ينبغي للمسلم أن يقف مع إخوانه في مِحَنِهم؛ ليجدهم بجواره عند محنته، والناس يعامل بعضهم بعضًا بالمثل وتبادل المعروف عادة، إلا ما ندر، فقلما تجد من يصِلُك ويبَرُّك، إن قطعتَه ولم تهتم لأمره.
تقوية الصلة بالله عز وجل
تقوية الصلة بالله تعالى تساعد على تجاوز الأزمات؛ لأنها تملأ حياة الإنسان، وتجعله يرى الأمور بعين أخرى أكثر ارتباطًا بالدار الآخرة، فتصغر الدنيا في عينيه، وتهون عليه المصائب، ويصير يعمل للآخرة بجدٍّ، ويصير رضا الله هو همُّه الأكبر، ويسعى إليه بإخلاص، ثم ينمو حب الله في قلبه، ولا تُهِمُّه الدنيا كثيرًا ولا ما أصابه فيها.
النسيان والتناسي والتشاغل
التشاغل بالعمل المباح والكسب الحلال يساعد المرء على نسيان مصيبته، ويُلهيه عن التفكير فيما فقده وفي حزنه؛ ومثال ذلك: التشاغل بالعمل والكسب الحلال، والتشاغل بعمل مشاريع إنتاجية، أو بالتجارة والزراعة، أو بالعمل الطوعي ومساعدة الفقراء، أو تعليم النشء، أو تربية الأطفال، أو نشر العلم المباح وغيرها.
كثرة قراءة القرآن لإصلاح القلب
العمل على إصلاح ما انكسر من القلب، وذلك بقراءة القرآن الكريم؛ لأن فيه تسليةً للمؤمن، وبشرى للصابرين، وتهميشًا للدنيا، وهو مليء بالمواعظ وقصص الأنبياء، وما عانَوه من مصاعبَ، وفيه ذكر الدار الآخرة وما ينتظرنا فيها من أهوال عِظامٍ يشيب لها الرأس، والكثير غيرها من الرسائل الإيجابية التي تُخرج المرء من دائرة الحياة المحيطة به لدائرة أكبر وأهم وأكثر تأثيرًا في مصيره.
قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } [البقرة: 155 – 157]، وقال في وصف الحياة الدنيا: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد: 20].ا
كثرة الصلاة
الصلاة تقوِّي الصلة بين العبد وربِّه، وتعطي القلب فرصة للاتصال بالله تعالى، واستحضار الجانب الروحيِّ لتجديد الإيمان، والبعد عن التفكير في الدنيا وما يحدث فيها، وجاء في فوائد الصلاة: “أنها تحقق صحة النفس وسعادتها، والصلاة تُعين المسلم على إزاحة هموم الدنيا وأحزانها، والصلاة منشطة للجسم، مَذْهَبة للخمول، خاصة إذا كان المصلِّي كثيرَ النوافل وكثير المشي إلى المساجد، وللصلاة فائدة هامة وعظيمة للمجتمع المسلم؛ وذلك من خلال الصلاة جماعةً في المساجد، والتعارف والتقارب بين الناس في مثل تلك الأماكن الفاضلة، وتوحد القلوب على العبادة، واستقامتها في صف واحد، من غير تفريق بين كبير ولا صغير، ولا غني ولا فقير[فوائد الصلاة، الإسلام سؤال وجواب، فتوى رقم (228428)].
صلة الرحم
صلة الرحم تساعد المرء على تجاوز الأزمات والتغلب عليها، والأهل هم خير من يواسي المبتلى في مصابه؛ لأنهم أقرب الناس إليه، وغالبًا ما تكون محبتهم صادقةً، وأصدق من محبة الأصحاب؛ وذلك لصلة القرابة، ووحدة الدم، وطول العشرة، وصلة الرحم فوق ذلك فيها أجر عظيم، وهي واجب لا يَسَعُ المرءَ تركُه؛ قال تعالى: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } [محمد: 22]، وقال ﷺ: ” لا يدخل الجنةَ قاطعُ رحمٍ” [ أخرجه مسلم (2556)، والبخاري (5984) مختصرًا].
الإكثار من العمل الصالح
الإكثار من العمل الصالح يساعد الإنسانَ على تجاوز الأزمات؛ حيث يصير ذلك شغله الشاغل، ويُلهيه عن التفكير في مصيبته، والله تعالى لا يضيع عمل الإنسان، بل يجزيه عليه بجزيل العطايا والثواب؛ قال تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران: 195]، وقال: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } [الزلزلة: 7].
المداومة على الدعاء والذكر
ذكر الله ودعاؤه فيه تسلية لصاحب البلاء، ويُدِرُّ عليه فرح القلب، والرضا عن النفس، والتقرب من الله، وزيادة الأمل فيما عنده من ثواب ونعيم يُعوِّضه عما فاته من متاع الدنيا وما فقده.
الترويح بالهوايات المباحة دون تفريط
التشاغُلُ بالهوايات المباحة دون تفريط؛ مثل: الرياضة، وكرة القدم، والطبخ، والفنون المباحة، والتسامر مع الأصحاب، وزيارتهم، والنظافة والعناية بالحدائق المنزلية، وغيرها من الهوايات المباحة.