تاريخ الإسلام في العالم ليس تاريخ المنطقة العربية وحدها، ولكنه تاريخ ضم شعوبا وأجناسا آمنوا بهذا الدين ودافعوا عن حقيقته وحدة ووحدانية، فهناك كثير من الأحداث والشخصيات العظيمة جاءت من خارج العرب لسانا وجغرافيا، ورغم ذلك فهناك مجهولات معرفية في تاريخ المناطق غير العربية تحتاج إلى إبراز للتأكيد على روعة هذا الدين وقدرته على التجذر والإثمار في كل أرض تستقبل بذوره وتعاليمه.
ومن تلك الشخصيات ” تجوات نجا ديان”[i] Tjoet Nyak Dhien التي قادت حرب عصابات ضد الاستعمار الهولندي من غابات “آتشيه” قرابة الربع قرن، انطلاقا من الإسلام الذي كان أكبر قوة جابهت الاستعمار الغربي في أرخبيل الملايو منذ بداياته في القرن السادس عشر الميلادي.
آتشيه..مملكة دار السلام
كان المسلمون في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي يشكلون قوة عسكررية واقتصادية كبيرة في العالم، تمتد ممالكهم على طول الطرق التجارية الرئيسية في العالم، من الهند إلى مالقا وأرخبيل الملايو[ii] والفلبين[iii] ومصر والشام وسواحل إفريقيا في الشمال والشرق والغرب.
يدرك الأوروبيون أن إضعاف الإسلام لن يتأتى إلا من خلال ضرب قوة المسلمين التجارية، ومع انهيار “غرناطة” آخر ممالك الإسلام في الأندلس عام 1492م، بدأت حركة الكشوف الجغرافية التي اصطدمت بالمسلمين، كما فتحت هزيمة الأساطيل المسلمة بزعامة دولة المماليك أمام البرتغاليين في معركة “ديو” البحرية عام 1509م البحار وطرق التجارة أمام الغزاة الجدد، فخاض البرتغاليون والإسبان صراعا عنيفا للسيطرة على التجارة العالمية وطرقها ومسالكها البحرية، فكانت “مالقا” أو “مالاكا” أول سلطنات المسلمين سقوطها في يد البرتغال عام 1511م، والتي اتخذوها قاعدة لمواجهة الإسلام في الملايو.
وقد نشأت سلطنة “آتشيه دار السلام”في شمال جزيرة “سومطرة” الإندونيسية، وحكمت قرابة الأربعمائة عام، أسسها “علي الدين محياة شاه” عام 1496م، متخذا من “باندا” عاصمة له، واستطاع توسيع حدودها، وقاوم التواجد البرتغالي في الملايو، وفي عهد “علاء الدين” الذي تلقب بـ”السلطان القهار” أصبحت “آتشيه” عام 1565هـ تابعة للدولة العثمانية، لمواجهة النفوذ البرتغالي، وتوافدت إليها المدافع والسفن العثمانية، وهو ما أوجد حالة من الاستقرار ساهم في تراكم الثروة، حتى بلغت أوج قوتها في عهد سلطانها الأشهر “الأسكندر مودا”، الذي تولى الحكم عام 1608 مدة تسعة وعشرين عاما.
أخذ النفوذ الهولندي يتسرب إلى الملايو مع تأسيس “شركة الهند الشرقية الهولندية” عام 1602م والتي تطلعت إلى احتكار التجارة في جزر الهند الشرقية (إندونيسيا حاليا)، متخذة من طرد البرتغاليين استراتيجية لتدعيم نفوذها متقربة بذلك من الحكام المحليين الذين كانوا يعادون البرتغال، فأنشأت الشركة أول مقر لها في “باتافيا” (جاكرتا حاليا) عام 1619، وأصبح لها قوة عسكرية أخرجت بها البرتغاليين من “مالقا” عام 1641م، ومع القرن السابع عشر الميلادي، سعت الشركة إلى السيطرة على مزارع الفلفل الأسود وتجارته التي كانت تسستحوذ “آتشيه” على نصف إنتاجه العالمي، ومع تأميم الحكومة الهولندية للشركة عام 1800م أصبحت هولندا حاضرة بقوة في الملايو وساعية إلى بناء مستعمرة كبرى، لذا دخلت في صراع وحروب مع المسلمين لتصفية ممالكهم وسلطناتهم، مثل: “حرب بادرى”[iv]، و” حرب جاوة”[v].
وقد غزت هولندا “آتشيه” عسكريا في مارس عام 1873م في حملة قادها الجنرال “كولر” نجحت في الاستيلاء على “باندا”، لكن ُقتل “كولر” مع ثمانين من جنوده، فشن الهولنديون هجومهم الثاني في نوفمبر بجيش قوامه ثلاثة عشر ألف جندي بقيادة الجنرال “جان فان سوييتن” لتستمر الحرب ثلاثين عاما، يتحول خلالها الهولنديون بعد عشر سنوات من الهجوم إلى الدفاع مع ارتفاع خسائرهم، في ظل حرب أصر كثير من الآتشيين أن تكون منطلقة من العقيدة الإسلامية ضد الاحتلال الهولندي، وعرفت تلك الحرب بطولات كبيرة مثل: “تجوات نجا ديان” تلك المرأة التي ستقضي خمسة وعشرين عاما في حرب عصابات ضد الهولنديين.
تجوات والغابات
في عام 1848م تولد “تجوات”[vi] في أسرة ذات ثراء ومكانة في “آتشيه” وتحصل على قدر من التعليم الديني، تتزوج في الثانية عشر من عمرها من “إبراهيم لامنغا” Ibrahim Lamnga، ويتفتح وعيها على التوسع الهولندي في جزيرة سومطرة، وانهيار الممالك الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، ومع سقوط “باندا” يتحول المقاتلون في “آتشيه” إلى الغابات للمقاومة على ما تبقى لهم من أرض أعلنوا فيها “محمد داوود” سلطانا عليهم.
يشارك “لامنغا” في المعارك ضد الهولنديين حتى استشهاده في يونيو 1878م، فتقسم “تجوات” على الانتقام، وتسير في طريقه في مقاومة الاستعمار، وعندما ترى مسجد “بيت الرحمن”[vii] مدمرا، تصرخ قائلة : “شعبي المؤمن في آتشيه ..راقب بعينيك مسجدنا محترق… مكان عبادتنا مدمر..الهولنديون يحاربون الله…المقاومة ليست فقط بالكلمات” وبعد عامين تتزوج من أحد قادة المقاومة وهو “تيكو عمر” Teuku Umar عام 1880م، وتتوحد قواتهما لمواجهة الاستعمار يعزز هذا الزواج معنويات مجاهدي “آتشيه” بعدما اشترطت عليه “تجوات” الاستمرار في مشاركتها في المقاومة .
يثمر زواجها من تيكو عمر” فتاة صغيرة تصطحبها أمها إلى الغابات مع تصاعد العمليات العسكرية، وهناك تعيش قسوة الحياة والحصار ونقص الطعام وتقلبات المناخ وغزارة الأمطار وانتشار الأمراض، ومع ذلك تصر على إكمال طريقها حتى بعد استشهاد “تيكو عمر” عام 1899م، والتي رفضت البكاء عليه معلنة أن “الشهداء لا تُذرف عليهم الدموع” ولكن يسير الناس على طريقهم في الجهاد والمقاومة، وعندما تسلمت قيادة المجاهدين بعد استشهاد زوجها خطبت في أتباعها قائلة: “في هذا المكان ستكون روح عمر معنا..سنقوم بحربنا كما كان يفعل عمر، سوف ننفذ أمر الله لمحاربة الكفار ..ومادُمت على قيد الحياة لا يزال لدينا قوة ، سنواصل حرب العصابات في سبيل الله”.
تقود “تجوات” حرب العصابات حوالي ست سنوات، تُصاب فيها بأمراض النقرس وضعف الإبصار، وتعتل صحتها، وفي 4 نوفمبر 1905م يقبض عليها الهولنديون بعدما أرشدهم أحد الأشخصا على مكان اختبائها، وتسجن فترة في “باندا” ثم تُنقل إلى غرب جاوا وتوضع تحت الإقامة الجبرية حتى وفاتها في 6 نوفمبر 1908، ورغم القبض على “تجوات”[viii] إلا أن حركة المقاومة الآتشية تستمر من خلال سيدة أخرى هي “بوركات بارين” Pocut Baren…
[i] في عام 1997 أصدرت الكاتبة والصحفية الهولندية “ماجدلينا هيرمينا سيكيلي لولوفز” Madelon H. Székely-Lulofs ” كتابا عن “تجوات” بعنوان ” “Tjoet Nja Din: The Life of an Atjeh Princess” وأعادت طبعة عدة مرات في أكثر من 370 صفحة
[ii] الملايو أكبر أرخبيل في العالم يحوي أكثر من عشرين الف جزيرة، ويقع بين جنوب شرق آسيا وأستراليا، وقد عرف الإسلام طريقه إليه مع القرن الأول الهجري من خلال تجار حضر موت وعمان الذين كانوا يقصدون الصين، كان الأرخبيل خاضعا لمملكة سريفيجايا التي كانت تدين بالهندوسية، وتأسست في الأرخبيل عدة ممالك إسلامية منها: مالقا، وآتشيه، وباساي
[iii] أرخبيل الفلبين يتكون من أكثر من سبعة آلاف جزيرة، وكان التجار المسلمون يسمونه “جزر المهراج”، وعرف الإسلام طريقه إليه مع رحلات المسلمين التجارية إلى الصين وسومطرة، ونشأت فيه عدة ممالك إسلامية أشهرها “راجا سليمان” و “صولو” و”مينداناو” و”ماكتان”
[iv] حرب بادري Padri War حرب ندلعت عام 1821 وانتهت عام 1837م في سومطرة الغربية بإندونيسيا بين المجاهدين العائدين من الحج وبين الهولنديين، وانتهت بانتصار الهولنديين.
[v] حرب دارت في جاوة بين 1825 و1830 قادها الأمير ديبونيجورو ضد الهولنديين، وانتهت باستسلامه عام 1830م
[vi] فاز الفيلم الإندونيسي Tjoet Nja Dhien بجائزة أفضل فيلم دولي في مهرجان كان السينمائي عام 1989
[vii] مسجد “بيت الرحمن” تم بناؤه في عهد السلطان “إسكندر مودا عام ( 1022هـ=1612م) وتعرض للتدمير أثناء الاحتلال الهولندي لسلطنة “آتشيه” لأنه كان أحد مراكز المقاومة، وأعاد الهولنديون بناؤه بعد ذلك لكن قاطعه المسلمون لسنوات طويلة
[viii] منحت إندونيسيا “تجوات” لقب البطلة القومية عام 1964 ووضعت صورتها على عملتها، وأطلقت اسمها على أحد مطاراتها الكبرى، وأنتجت عنها فيلما طويلا