قدرة الإنسان على اختلاق الأعذار والتبريرات واسعة؛ فقد يضفي على تكاسله وضعف همته ستارا أخلاقيا، هربا من اللوم والعقاب، ورغبة في التمتع بالراحة والأمان، وتقديم الأعذار من سمات النفوس الضعيفة، والعزائم اللينة، ومع انتشار “ثقافة العذر” تنتشر أمراض اجتماعية وأخلاقية، منها: الكذب، الذي يبرر قبول العذر، وكذلك تنتشر ثقافة التواكل، ويغيب الاتقان، ويضيع الطموح، وتختفي الهمم العالية، وقد تنتقل “ثقافة العذر” من الشخص إلى المجتمع والمؤسسات، فتنتشر تبريرات الفشل، وتغيب القدرة على استخلاص الدروس من الأخطاء والهزائم.
وقد كان القرآن واضحا غاية الوضوح، في ضرورة أن يبحث الإنسان عن مسببات الفشل في نفسه أولا، وألا يلقي أسبابه على الآخرين، فقال تعالى للمؤمنين بعد هزيمة “أحد”: “قل هو من عند أنفسكم[i] .
الباحثون عن عذر
“إذا كنت تريد فعل شيء ما، فستجد طريقة، وإذا لم تفعل، ستجد عذرًا [ii]”الأعذار الهشة تنكشف مع أول اختبار للحقيقة، إذ يُكتشف الكذب، ويظهر الخداع، وتنكشف الهمة الضعيفة، ولهذا فإن عدم تقديم عذر أفضل من تقديم عذر سيء، بل إن رغبة النفس في تقديم الأعذار تحتاج مقاومة ذاتية، وصراع داخل الإنسان، فإذا انتصر الشخص على رغبته في تقديم الأعذار، فإن قوته الذاتية تزداد، وتنمو، ومع استمرار المقاومة يستطيع أن يتخلص من تلك الروح البليدة الراغبة في السيطرة على إرادته.
وقد اهتم علم النفس بالشخص الباحث عن عذر، ورأى أن وجود هذا السلوك يضر به، إذ يقود إلى ما يُسمى بـ”إعاقة الذات” self-handicapping التي تُضر بالتحفيز الذاتي الدافع إلى المبادرة والعمل، فالأعذار تُلهي النفس عن قدراتها الذاتية، وإمكاناتها، فيغفل الإنسان عن قدراته ومواهبه، التي قد تذبل من قلة الاستخدام، بعدما انصرف عن تنميتها وإبرازها.
وإذا كان الشخص يظن أن باختلاقه الأعذار، فإنه سيهرب من التأنيب والقلق، فإن الوقع يؤكد أن ذلك الشخص يقع في هوة أعمق وهي سحق الذات وإعاقتها، فيُخلق في النفس شعورا متأصلا بالعجز وقلة الحيلة، ولهذا كان عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه- يقول :” “لو أن الناس كلما استصعبوا أمرا تركوه ماقام للناس دنيا ولادين”، وفي الحديث النبوي الشريف، وصية عظيمة تحث المؤمن أن يتحلى بالقوة، ويُنحي الأعذار جانبا، ويستند إلى ربه، يستمد منه قوة الإرادة القدرة على الفعل، فقال ﷺ:” المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز[iii].
تشير الدراسات النفسية أن اللجوء إلى العذر، يُصعب على الإنسان القدرة للبحث عن حل لأزماته وتحدياته، وإدمان اللجوء إلى العذر، يرسخ في اللاوعي خورا في الإرادة، فيتحول العذر من وسيلة للحماية الذاتية إلى ثقافة، ثم إلى عادة يلجأ إليها الإنسان تلقائيا بلا وعي، وكسر تلك العادة يحتاج إلى جهد كبير، وتشير الدراسات إلى وجود منطقة في المخ مرتبطة بالعادات، ولهذا فإن التخلص من العادة ليس أمرا هينا، ففي العادة يتحول السلوك إلى ما يشبه الفعل الآلي، الذي تغيب عنه السيطرة الواعية، ومع هذا فإنه بالرغم من إدانة الأعذار إلا أنها تتمتع بقبول واسع، فيلجأ لها الكثير، رغم تحذيرات الدراسات النفسية من أن للأعذار تأثيرها السلبي في بناء الشخصية.
تخلص من عذرك
في شعره ربط “المتنبي ” بين النفوس العظيمة والجسد الذابل، فالنفس ذات العزيمة ترهق آلة الجسد، فقال
وإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراًتَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ
ويقول “ابن الجوزي” في كتابه “صيد الخاطر”:” من علت همته طلب العلوم كلها، ولم يقتصر على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن، ثم يرى أن المراد العمل فيجتهد في قيام الليل وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب”، ثم يقول:” والدنيا دار سباق إلى أعالي المعالي، فينبغي لذي الهمة ألا يُقصر في شوطه، فإن سبق فهو المقصود، وإن كبا جواده مع اجتهاده لم يُلم.
والحقيقة ان الكثير من الناس يعتقد أن النجاح هو ابتسامة من الحظ، أو الناجح صاحب موهبة خارقة، غير أن تتبع سير الكثير من الناجحين يجد أن وراء النجاح حالة عالية من الانضباط، وتخلص نفسي من الركون إلى الأعذار، وربما هذا ما أشار إليه كتاب “لا اعذار! لديك كل ما تحتاجه “[iv] لـ”كريستيان بنيامين” Christian Benjamin إذ يؤكد أن تحديد الأهداف بدقة يساعد على التخلص من الميل للأعذار، ويخلق الحافز للحركة والعمل، فهو يُحسن القدرة على إدارة الوقت، ويساهم في حل المشكلات بفعالية.
ويؤكد الكتاب أن الفرد عند ولادته فإن الله تعالى أمده بكل ما يحتاجه للنجاح في الحياة، والإنسان إذا أدمن الشكوى بدلا من البحث عن طريقه، فإن الحسد والكراهية والمرارة ستملأ نفسه، يقول الكتاب بصوت عال للشخص: “أنت لست فارغا” وعليك أن تبحث عن الموهبة الدفينة في نفسك وتستخرجها، ولا تركن إلى العذر.
وفي كتاب “أوقف الأعذار”[v] لـ ” واين داير ” Wayne Dyer فيحدثك عن الطريقة التي تتغلب فيها على الصوت الخافت في داخلك والذي يقول “لا أستطيع”، ووضع الكتاب عدة خطوات للتغلب على الروح الاعتذراية منها: “الوعي، التناغم، التأمل، الاستعداد، الشغف، العطف”، لكنه لفت الانتباه إلى مسألة مهمة، وهي أن من يلجأ إلى الأعذار لن يلجأ إليها بصفة دائما، لأن الناس يملون وينفرون من الشخص صاحب الأعذار، ولذا على الإنسان أن يتخلص من تلك العادة السيئة، فمع التخلص من الأعذار تستيقظ الهمم النائمة، والامكانات المهدرة والطاقات المعطلة.
تعددت النصائح لمواجهة “ثقافة الأعذار”، على المستوى الشخصي والمجتمعي، ومنها: التوقف عن قبول العذر، وربما يكون في هذا المسلك بعضا من التشدد، لكنه يغلق الباب أمام ثقافة الاعذار، ويضع الشخص أمام مسئولياته، ليتحمل نتائج أفعاله، ومع مرور الوقت تتضاءل الأعذار في المؤسسات والمجتمع، وهناك من يرى أن ثقافة المساءلة culture of accountability قادرة على مقاومة ثقافة الأعذار culture of excuses، فالعذر دوما يُعيق المساءلة، وهذا يستدعي أن تكون المساءلة نشطة حتى تكافح اللجوء إلى العذر، كذلك الابتعاد عن الشكوى، لأنها تكسر الإرادة، وتوهن العزائم، وتجنب الخوف لأنه سبب رئيسي في اختلاق الأعذار، فالشجاعة تسهم في تطوير الذات.
[i] سورة آل عمران: الآية 165
[ii] مقولة لرجل الأعمال الأمريكي “جيم رون”
[iii] رواه الإمام مسلم في صحيحه
[iv] No Excuses! You Have All You Will Ever Need
[v] Stop The Excuses