كان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم على درجات متفاوتة من العلم والفقه والفهم للكتاب والسنة والاجتهاد في الأحكام الشرعية ، كما كانوا رتبا – أحيانا متباعدة – في التدين والممارسة العملية للإسلام والشعائر التعبدية ، فمنهم الآخذ بالعزائم ومنهم المائل للرخص ، ومن بينهم المتمسك بظاهر النص ومنهم الذاهب إلى روحه وفحواه .
فعلى سبيل المثال لا الحصر : كان الصحابي الجليل الفقيه العابد عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – يَمِيلُ إلَى التّشْدِيدِ فِي الكثير من المسائل التي لا يوافقه فيها الصحابة رضوان الله عليهم ، منها : أنهَ كَانَ يَغْسِلُ دَاخِلَ عَيْنَيْهِ فِي الْوُضُوءِ ، و إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ أَفْرَدَ أُذُنَيْهِ بِمَاءِ جَدِيدٍ ، ويَمْنَعُ مِنْ دُخُولِ الْحَمّامِ وَ إذَا دَخَلَهُ اغْتَسَلَ مِنْهُ . وَكَانَ رضي الله عنه يَتَيَمّمُ بِضَرْبَتَيْنِ ضَرْبَةً لِلْوَجْهِ وَضَرْبَةً لِلْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى ضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا عَلَى الْكَفّيْن . وَ كَانَ إذَا قَبّلَ أَوْلَادَهُ تَمَضْمَضَ ثُمّ صَلّى ، ويزاحم على الحجر الأسود ليقبله حتى تدمى قدماه ، حرصا منه على السنة واتباع النبي الكريم عليه الصلاة والسلام .
ليس الترخص منكرا حتى يجبر أو يلزم صاحبه على اتباع نقيضه ، وليس الأخذ بالعزيمة هو المعروف الأوحد الذي لا ثاني له ولا نظير
في المقابل كان الحبر العلاّمة عبد الله بْنُ عَبّاسٍ – رضي الله عنهما يميل للترخص ويفتي بذلك مخالفا ابن عمر في المسائل التي تشدد بها ، فكان : يَدْخُلُ الْحَمّامَ ، َو يَقُولُ التّيَمّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفّيْنِ ، ويقرب الأطفال ويسميهم رياحين فلا يبالي بتقبيلهم ولا يرى به أي تأثير على الوضوء ، و كان يترك تقبيل الحجر الأسود حتى لا يؤذي ولا يؤذى.
والمؤكد أننا لم نسمع ولم نقرأ عن أحد منهما ذما لأخيه أو انتقاداً له و تجريما لموقفه ، فلم يرو أن ابن عمر – رضي الله عنهما – انتقص من شأن ابن عباس – رضي الله عنهما – واتهمه بالتقصير والتفريط والتهاون لترخصه ، كما أن ابن عباس لم يتهم ابن عمر بالغلو والتنطع والتصلب وغيرها من الأوصاف والألقاب .
و لم نسمع أن أحدهم طعن في نوايا الآخر وفي إخلاصه وصدق حبه للدين وتفانيه له كما نرى ونشاهد في أيامنا ، فالأمر خارج عن هذا كله ، قد وسع دين الله الجميع واستوعب كل الاجتهادات التي صدرت عنهم وفق ما ينسجم مع الضوابط والأصول العامة .
كما إنه لم يتناه إلى أسماعنا أن صحابة الرسول – ﷺ – تحزبوا لأحد الصحابيين دون الآخر ، أو تعصبوا لفتوى ورأي واجتهاد دون مثيله ، أو تفرقوا شيعا بسبب ذلك ، بل كانوا أخوة متحابين يعذر بعضا بعضا ، ويقدر أحدهم الآخر .
و ليس بالضرورة أن يكون التشدد أو الآخذ بالعزائم – عموما – هو الأتقى والأنقى والأورع دوما كما يظن الكثيرون ، وأن يكون صاحبه ذا شأنا في الدين فيمتدح . في المقابل ليس الترخص تقصيرا وتفريطا في جنب الله ، فيُلام صاحبه أو يعاتب ويلام ! فالأمر أوسع من ذلك .
و الذي يجب التنويه له أن مثل هذا الاجتهاد وذاك التدين لا يخضعان لنظرية وقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى : ليس الترخص منكرا حتى يجبر أو يلزم صاحبه على اتباع نقيضه ، وليس الأخذ بالعزيمة هو المعروف الأوحد الذي لا ثاني له ولا نظير ، وبالتالي يحكم على مخالفه بالإنكار!
إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه
لقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفقهون هذا تمام الفقه ، ويعلمون أنه دائر في حيز المقبول من الاختلاف والاجتهاد وبالتالي التدين ، وأنه متى خرج عن هذه الدائرة فسيتصدرون للمخالف بالنصيحة والإنكار والتوجيه ، كما حدث في قصة أبي الدرداء مع سلمان :
حين آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء. فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة. فقال لها ما شأنك؟ قالت أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل. قال فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكل. فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم. قال: نم، فلما كان من آخر الليل.قال سلمان: قم الآن. فصليا. فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي ﷺ فذكر له ذلك، فقال النبي ﷺ: ((صدق سلمان)). البخاري