كان عقد التوريد من البيوع المولدة التي عمت بها البلوى في حياة الناس الحاضرة، وهو عقد ذات صلة بشؤون المعاملات، إذ طبيعة الحياة تتجدد فترة تلو أخرى وخاصة في النشاط الاقتصادي، وقد تناول الفقه الإسلامي الحكم الشرعي لهذا العقد، وأبرز جانبا من إدارة المخاطر في هذا العقد وارتباطه بعقد الرهن.

والغالب على أمتنا الإسلامية اليوم أنها تستهلك ولا تصنع، وكان تستورد ما عجزت عن صنعها، حتى دعت الضرورة إلى عقود التوريد التي يعقدها الأفراد أو الشركات لجلب الأشياء الحديثة من العالم الصناعي، من تقنيات صناعية عالية أو استصناعية بأشكالها المختلفة، من أجل خدمات العامة والخاصة؛ سواء في مجال التعليم أو الصحة أو العسكرية أو الزراعية وغيرها مما لا تستغنى عنها البتة، وعقود التوريد إذا هي عقود مرتبطة بالتطورات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وإن كانت شهرتها في المجالات الإدراية أكثر.

وجاء تعريف هذا العقد عند المجمع الفقهي -في دورته الثانية عشرة بالرياض- بأنه:” عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعًا معلومة، مؤجلة بصفة دورية، خلال فترة معيَّنة، لطرف آخر، مقابل مبلغ معيَّن مؤجل كله أو بعضه.[1]

ما هو التكييف الفقهي لعقود التوريد؟

إن التكييف الفقهي لهذا العقد يرتبط بمآلته واختلاف طبيعة السلعة المراد استيرادها، أو بعبارة أخرى أنه يتجاذب عقد التوريد بعض العقود المعاوضات القديمة[2] من حيث ما ينتهى إليه محل العقد، قد ينسب هذا العقد إلى عقد السلم إذا كان محل عقد التوريد متصلا بسلعة لا تتطلب الصناعة، كأن تكون سلعة موصوفة في الذمة يتعين على المورد تسليمها في وقت محدد، وحينه يتدخل أحكام السلم في عقد التوريد.
وقد ينسب هذا العقد أحيانا إلى عقد الاستصناع في حالة كون السلعة المعقود عليها تتطلب الصناعة قبل استيرادها وبالتالي ينبني عقد التوريد على أحكام عقد الاستصناع.
وبهذا التكييف صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي أنه:” إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة، فالعقد استصناع، تنطبق عليه أحكامه. وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع رقم 65 (3/7). إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة، وهي موصوفة في الذمة، يلتزم بتسليمها عند الأجل” [3]

ووجه تخريج عقد التوريد على بيع السلم هو “أن المبيع في كل منهما مؤجل، وموصوف، ومعلوم القدر، والثمن في السلم وبعض صور التوريد معجل، فهذا وجه التشابه بينهما، فلذلك يمكن أن يقال إن عقد التوريد يأخذ حكم السلم في الصورة التي يكون فيها الثمن معجلا.

وقد ورد هذا في قرار المجمع الفقهي بخصوص التوريد حيث جاء فيه: إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة وهي موصوفة في الذمة يلتزم بتسليمها عند الأجل، فهذا يتم بإحدى طريقتين:

أ – أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقد يأخذ حكم السلم فيجوز بشروطه المعتبرة شرعا.

ب – إن لم يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد فإن هذا لا يجوز؛ لأنه مبني على المواعدة الملزمة بين الطرفين”[4]

ونخلص من هذا أن العقدين متشابهين من حيث أن السلعة معدومة في صورتيهما وإنما هي مؤجلة بالوصف في الذمة، وإذا جاءت مطابقة للوصف فإنه يلزم المشترى بالعقد.

وأما وجه تخريج عقد التوريد على عقد الاستصناع، “هو أن كلا منهما عقد على أمرين مفترض فيه أن يكون معدوما عند التعاقد، حيث إن المصنع يلتزم بصناعته في المستقبل، وهذا يتحقق في عقود التوريد الصناعية، كما أن الثمن لا يجب تعجيله في الاستصناع، وإنما تجب معلوميته نوعًا وقدرًا، فيمكن أن يكون معجلا أو مؤجلا كله أو مقسطا، وهذا واقع في عقود التوريد كذلك.

 وبناء عليه فإنه يمكن أن تطبق أحكام الاستصناع على عقود التوريد الصناعية فقط – حيث إن الاستصناع إنما يجري في الأشياء التي تصنع صنعًا، ولا يجري في الأشياء التي لا تدخلها الصنعة كالثمار والبقول والحبوب ونحوها – أما عقود التوريد غير الصناعية – أي التي لا يلتزم فيها المورد بصناعة السلعة وإنما يجلبها إلى المستورد – فإنه لا يمكن أن تنطبق عليها أحكام الاستصناع. ولهذا فقد ورد في قرار المجمع بشأن التوريد السابق الذكر أنه: “إذا كان عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة فالعقد استصناع تنطبق عليه أحكامه”[5]

والحاصل أن عقد التوريد يتخرج على عقد الاستصناع من حيث كون ثمن المبيع لا يجب تسليمه في مجلس العقد في كلا العقدين على الصحيح.

ما هي أوجه الرهن في عقد التوريد؟

 الصحيح من أقوال أهل العلم جواز الرهن في السلم، “لأنه كما يجوز أخذ الرهن في الحق الثابت في الذمة إن كان ثمنا، فكذلك يجوز أخذ الرهن عنه إن كان مثمنا كما في السلم، وذلك بجامع الدينية والثبات في الذمة في كل منهما فلا وجه للتفريق بين دين السلم وغيره من الديون[6]”.
مثلاً: رجل تعاقد مع غيره سلماً في استيراد سلعة موصوفة في الذمة، فقال له: هذه مائة ألف ثمن المبيعة آخذها منك في نهاية رمضان، قال: قبلت، قال: أعطني رهناً توثيقا لمائة ألف الذي أعطيتك، أي يريد الرهن مقابل الوفاء بالسلم، لأنه قد يحصل مانع غير متوقع يحول دون سبيل الوفاء بالسلم، أو احتمال مماطلة البائع في تسليم البضاعة في الوقت المحدد أو عدم إمكانية الحصول على الشيء المتفق عليه بين الطرفين أو نحو ذلك مما يسوغ له أن يسترد حقه من المرهون.

إذا جازت الرهون في بيع السلم فإنها تجوز في عقد الاستصناع وخاصة إذا تم دفع الثمن للصانع كله أو بعضه، ولا فرق بينهما، ويصح أيضا تقدم قبض الرهن على إبرام عقد الاستصناع بناء على القول الراجح في وقوع الرهن قبل الحق، فيكون حينئذ من باب ضمان مصداقية المعاملة بين الطرفين.

وعليه يجوز أخذ الرهن في عقد التوريد حسب محل العقد فيه، سواء  كان من قبيل السلم أو الاستصناع وأنه لا بأس جريان الرهن فيهما.

وعلى تكييف عقد الاستصناع أنه عقد لازم مستقل ولم يتم تسليم رأس المال في مجلس العقد، فإنه يحق للمورد أن يسترهن رهنا من المستورد ضمانا على حقه، كأن يطلب رهن الأوراق التجارة أو رهن الحساب الجاري وغيرهما، حيث يضمن قبض ثمن السلعة عند حلول الأجل في أي حال.

وكذا للمستورد حق أخذ الرهن من المورد إذا قدم له رأس المال كله أو بعضه، وإذا كان لا يأمن من عاقبة العقد، ربما من عدم قيام المورد بتسليم البضاعة في الموعد أو يحصل أي مخالفة لبعض الشروط المشترطة عليه في العقد مما قد يؤول إلى فسخ العقد اللازم، فيكون حينئذٍ من حقه في المرهون أن يستوفي قيمة ثمن المال الذي دفعه للمورد.


[1]  مجلّة مجمع الفقه الإسلاميّ 12/754

[2] كما يتشابه عقد التوريد بعقد بيع الغائب على الصفة من حيث غياب الثمن والمثمن عن المجلس إلى الأجل، وإنما يتم العقد في الصورتين بناء على وصف المبيع أو رؤية العين من السلعة. 

[3] مجلّة مجمع الفقه الإسلاميّ 12/854

[4] المقالة بعنوان “عقد التوريد رؤية تأصيلية” لعبد الرحمن بن سليمان الربيش، مجلة البحوث الإسلامية 91/205

[5] ينظر: المقالة بعنوان “عقد التوريد رؤية تأصيلية” لعبد الرحمن بن سليمان الربيش، مجلة البحوث الإسلامية 91/205

[6]  فقه المعاملات، ص:730.