من أعظم النعم سرور القلب، واستقراره وهدوئه، فإن في سروره ثبات الذهن وجودة الإنتاج وابتهاج النفس، وقالوا: إن السرور فن يدرس، فمن عرف كيف يجلبه ويحصل عليه، ويحظى به استفاد من مباهج الحياة ومسارِّ العيش، والنعم التي من بين يديه ومن خلفه. والأصل الأصيل في طلب السرور قوة الاحتمال، فلا يهتز من الزوابع ولا يتحرك للحوادث، ولا ينزعج للتوافه، وبحسب قوة القلب وصفائه، تشرق النفس.

إن خور الطبيعة وضعف المقاومة وجزع النفس، رواحل للهموم والغموم والأحزان، فمن عود نفسه التصبر والتجلد هانت عليه المزعجات، وخفت عليه الأزمات:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا *** فأهون ما تمر به الوحول

ومن أعداء السرور ضيق الأفق، وضحالة النظرة، والاهتمام بالنفس فحسب، ونسيان العالم وما فيه، والله قد وصف أعداءه بأنهم[أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ] (آل عمران: 154)، فكأن هؤلاء القاصرين يرون الكون في داخلهم، فلا يفكرون في غيرهم، ولا يعيشون لسواهم، ولا يهتمون للآخرين. إن عليّ وعليك أن نتشاغل عن أنفسنا أحيانًا، ونبتعد عن ذواتنا أزمانًا لننسى جراحنا وغمومنا وأحزاننا، فنكسب أمرين: إسعاد أنفسنا، وإسعاد الآخرين.

الأصول في فن السرور

من الأصول في فن السرور أن تلجم تفكيرك وتعصمه، فلا يتفلّت ولا يهرب ولا يطيش، فإنك إن تركت تفكيرك وشأنه جمح وطفح، وأعاد عليك ملف الأحزان وقرأ عليك كتاب المآسي منذ ولدتك أمك.
إن التفكير إذا شرد أعاد لك الماضي الجريح والمستقبل المخيف، فزلزل أركانك وهز كيانك وأحرق مشاعرك، فاخطمه بخطام التوجه الجادّ المركز على العمل المثمر المفيد، [وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ].
ومن الأصول أيضا أن تعطي الحياة قيمتها، وأن تنزلها منزلتها، فهي لهو، ولا تستحق منك إلا الإعراض والصدود؛ لأنها أم الهجر ومرضعة الفجائع، وجالبة الكوارث، فمَن هذه صفتها كيف يهتم بها، ويحزن على ما فات منها. صفوها كدر، وبرقها خلب، ومواعيدها سراب بِقِيعَة، مولودها مفقود، وسيدها محسود، ومنعمها مهدد، وعاشقها مقتول بسيف غدرها:
أبني أبينا نحن أهل منازل***أبدا غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر***جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الجبابرة الأكاسرة الألى***كنزوا الكنوز فلا بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بعيشه***حتى ثوى فحواه لحد ضيق
خرس إذا نودوا كأن لم يعلموا***أن الكلام لهم حلال مطلق

في فن الآداب

وإنما السرور باصطناعه واجتلاب بسمته، واقتناص أسبابه، وتكلف بوادره، حتى يكون طبعًا.
إن الحياة الدنيا لا تستحق منا إعادتها العبوس والتذمر والتبرم:
حكم المنية في البرية جاري***ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا ترى الإنسان فيها مخبرا***ألفيته خبرا من الأخبار
طبعت على كدر، وأنت تريدها***صفوًا من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها***متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما***تبني الرجاء على شفير هار
والعيش نوم والمنية يقظة***والمرء بينهما خيال ساري
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما***أعماركم سفر من الأسفار
وتركضوا خـيل الشباب***وبادروا أن تسترد فإنهن عوار
ليس الزمان وإن حرصت مسالما***طبع الزمان عداوة الأحرار

والحقيقة التي لا ريب فيها أنك لا تستطيع أن تنزع من حياتك كل آثار الحزن؛ لأن الحياة خُلقت هكذا ]لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ[..

وأخيرًا

لا تحزن! فقد حار الأطباء، وعجز الحكماء، ووقف العلماء، وتساءل الشعراء، وبارت الحيل أمام نفاذ القدرة ووقوع القضاء، وحتمية المقدور:
عَسى فرجٌ يكون عَسى ***نعلِّل نفسَنا بِعَسى
فلا تقنط وإن لاقيت***هَمًّا يقضب النفَسا
فأقرب ما يكون المرء***مِنْ فَرَجٍ إذا يئسَا