لقد اشترك في مراتب الوحي جميع الأنبياء عليهم السلام، وقد جمع الله تعالى لنبيه ﷺ تلك المراتب، وزاده مراتب أُخر غيرها، لم تقع للأنبياء السابقين.
ما هي مراتب الوحي إلى النبي محمد ﷺ ؟
مراتب الوحي إلى النبي محمد ﷺ، هذا ما سأبيِّنه في النقاط التالية:
- الرؤيا الصالحة، وكانت مبدأ وحيه ﷺ، وكان لا يرى الرؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبح، أخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان أول ما بُدئ به رسول الله ﷺ الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلق الصبح)، وهذا النوع من الوحي استمر ستة أشهر قبل أن يأتيَه جبريل عليه السلام في حراء، ولا شك أن الرؤى الصالحة استمرت معه ﷺ إلى آخر حياته، وكانت كثيرة جدًّا.
- ما كان يُلقيه الملك في رُوعه وقلبه من غير أن يراه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة صُدي بن عجلان الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إنَّ رُوح القدس نفث في رُوعي أنَّ نفسًا لن تموت حتى تستكمل أجلَها، وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يَحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يَطلُبَه بمعصية الله، فإنَّ الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته)[1].
- أنه ﷺ كان يتمثل له الملك رجلًا فيخاطبه، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحيانًا، أخرج مسلم من حديث عمر رضي الله عنه الطويل وفيه: (يا عمر، أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
- أنه كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، أخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل النبي ﷺ فقال: (كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ: أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس – وهو أشدُّه عليَّ – فيفصِم عني وقد وُعيت عنه ما قال).
- أنه كان يرى الملك في صورته التي خُلق عليها، أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما سُئل عن تفسير قوله تعالى: { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } [النجم: 9-10]، قال رضي الله عنه: (إنه رأى جبريل له ستمائة جناح).
- ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج: وهذه المرتبة تختلف عن التي بعدها من حيث المكان؛ إذ لم يثبُت أن الله تعالى أوحى إلى نبي وهو في السماء، وإنما كان وحي الله له ﷺ بكلام مباشر دون واسطة، وهي المرتبة التي تلي هذا المرتبة، ودونك الكلام عليها بشيء من التفصيل في الفقرة.
- كلام الله تعالى إياه بلا واسطة ملك كما كلَّم موسى بن عمران عليه السلام: أخرج مسلم من حديث أنس بن مالك الطويل وفيه: (ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقها كآذان الفِيَلة، وإذا ثمرُها كالقِلال، قال: فلما غَشِيَها من أمر الله ما غَشِيَ، تغيَّرت فما أحدٌ مِن خَلْق الله يستطيع أن ينعتها مِن حُسنها، فأوحى الله إليَّ ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى ﷺ، فقال: ما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أُمتك لا يُطيقون ذلك، فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبَرتُهم، قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: يا رب، خفِّف على أمتي فحطَّ عني خمسًا، فرجعت إلى موسى فقلت: حط عني خمسًا، قال: إن أمتك لا يطيقون ذلك فارجِع إلى ربك، فاسأله التخفيف، قال فلم أزَل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى عليه السلام، حتى قال: يا محمد، إنهنَّ خمس صلوات كلَّ يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة، ومَن هَمَّ بحسنة فلم يعمَلها كُتبت له حسنة، فإن عملها كُتبت له عشرًا، ومَن هَمَّ بسيئة فلم يعمَلها، لم تُكتب شيئًا، فإن عمِلها كُتبت سيئة واحدة، قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ﷺ، فأخبرتُه فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فقال رسول الله ﷺ: فقلت: قد رجعت إلى ربي حتى استحييتُ منه). قلت: وفي وصوله ﷺ إلى هذا المقام من التكريم والتشريف ما لا يتخيَّله بشرٌ، ولا يَخطُر على قلب إنسان، وإذا كان موسى عليه السلام كلَّمه ربُّه مرة أو مرتين، فكلام الله للنبي ﷺ تسع مرات؛ لأنه خفَّف عنه في كل مرة خمس صلوات.
فائدة
قال النووي – في شرحه على صحيح مسلم -: (قال ابن عباس والمفسرون وغيرهم: سُميت سِدرة المنتهى؛ لأن علمَ الملائكة ينتهي إليها، ولم يُجاوزها أحدٌ إلا رسول الله – ﷺ – وحُكي عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – أنها سُميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يَهبِط مِن فَوقها، وما يَصعَد مِن تحتها مِن أمر الله تعالى).