مازالت الرواية الشعبية في تقديم الفنون الإفريقية تُروى محرفة بنفس الأسلوب الذي اكتشفت عليه، وضمن سياق الحركات الفنية الغربية الرئيسة، وذلك منذ ورد ذكرها للمرة الأولى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
وأتى صعود تيار الفن الحديث متزامنا مع مؤتمر “التدافع من أجل افريقيا” الذي انطلق في برلين عام 1884 م، عندما تقاسمت القوى الأوروبية ملكية القارة البالغة مساحتها حوالي 12,000,000 ميلا مربعا.
واستنادا إلى كتابات المؤرخين، فإنه لم يحدث شيء في إفريقيا قبل وصول الأوروبيين ؛ وبدا ذلك واضحا – على سبيل المثال – في رفض الفيلسوف الألماني هيغل لتاريخ القارة السمراء، قائلا إنها “ليست جزءا تاريخيا من العالم” ، مع “عدم وجود حركة أو تطور تعرضه”.
وبعد عقود من الزمن تبين عدم دقة هذا الأمر بسبب عمليات تنقيب الآثار واكتشاف أدلة أحفورية أثبتت وجود حياة على هذا الكوكب كانت إفريقيا مهدها، كما كشف عن مدى الرؤية الناقصة في الرواية والمتاحة فقط من الزاوية الأوروبية.
في المقابل ، أكدت الدراسات التاريخية وجود حضارات وممالك أفريقية خلال العصور الوسطى وماقبلها مثل: امبراطورية “كوش” – حاليا موقعها يمتد من جنوب مصر إلى وسط السودان – وحضارة ” أكسوم ” في إثيوبيا ، وزيمبابوي العظمى في زيمبابوي الحديثة وغيرها، ولذلك نجد تركة الاستعمار تلقي بظلالها على آلاف السنين من التاريخ الإفريقي.
وقام أحد المعارض أقيم في يناير الماضي بمتحف “ماري ولي بلوك” للفنون بجامعة نورث وسترن الأمريكية بتسليط الضوء على الروابط الأفريقية المهمة و تأثيرها على الصعيد الاقتصادي والثقافي المادي في العالم قبل قرون من وقوع الكارثة الاستعمارية وما خلفته من تجارة للرقيق عبر الأطلسي.
المعرض تم افتتاحه تحت عنوان “قوافل الذهب” حول الفنون وثقافة الصحراء الأفريقية في العصور الوسطى، والذي غير مسار بحث النظر للمنطقة كمركز تأثير عالمي من خلال شبكات التجارة العابرة للصحراء إلى أوروبا والشرق الأوسط ، و آسيا قبل تطور تجارة الرقيق.
أشرف على هذا المعرض الدكتورة كاثلين بيرزتوك ، مساعدة مدير مؤسسة “بلوك” وبالتعاون مع جهات متعددة التخصصات مثل معهد بافيت للدراسات العالمية في جامعة نورث وسترن ، وكذلك مجموعة من المؤرخين وعلماء الآثار وعلماء أنثروبولوجيا من مالي والمغرب ونيجيريا.
وكشف المعرض عن أكثر من 250 قطعة – بما في ذلك الأعمال الفنية و الأثرية – من أربع قارات مختلفة قبل آلاف السنين ، بهدف “تسليط الضوء على دور إفريقيا المحوري في التاريخ العالمي من خلال المواد الملموسة “.
وأوضح الدكتور بيرزوك أن إرث التبادل عبر الصحراء في العصور الوسطى قد تم تجاهله إلى حد كبير من الروايات التاريخية الغربية وتاريخ الفن ، وبالتأكيد من طريقة عرض إفريقيا في المتاحف الفنية.
وقبل العصر الحالي كان نطاق دراسة طرق الوصول إلى إفريقيا في العصور الوسطى غير مستغل في الخطاب التاريخي الفني.
ولم تسلط غالبية المعارض الضوء عليها خاصة أنها تتميز بروابط مادية إفريقية ولها صلات قوية بالاقتصاد والإنتاج الثقافي مع أجزاء أخرى من العالم. القطع الأثرية مثل تمثال “مادونا العاج” من فرنسا في القرن الثاني عشر منحوتة من أنياب الفيلة الافريقية سافانا وتدرس كنموذج ضمن سياق الطريق التجاري عبر الصحراء الأفريقية. كذلك أعمال فنية نيجيرية تعود للقرن الخامس عشر مصنوعة من الشمع و النحاس. وهذه القطع تحدد بشكل لا لبس فيه وضع إفريقيا كمركز تجاري عالمي ، وتوضح الشراكات القائمة على المنفعة المتبادلة.
من بين أكثر القطع الفنية إثارة للاهتمام قطعة فخار أثرية مصنوعة من الخزف الصيني اكتشفت في تادمكه بمالي. مع أكثر من 6,000 ميلا بين هاتين المنطقتين ، ترسم التحفة شكل الشبكات التجارية الشاسعة والمعقدة عبر الصحراء. سلع مثل التوابل والنحاس والعاج والذهب والملح وغيرها جعلت منطقة غرب إفريقيا منطقة مشهورة في العصور الوسطى.
هناك خريطة لإقليم كاتالونيا التابع لإسبانيا تعود للقرن الرابع عشر بينت بشكل بارز امبراطورية مانسا موسى ، أو موسى كيتا الأول ، حاكم مالي ، دللت على أن الأوروبيين كانوا يعلمون بأمر هذه المملكة منذ وقت مبكر.
كانت امبراطورية منسا موسى تمتد لأكثر 1,200 ميل وشملت بوركينا فاسو وتشاد وغامبيا وغينيا ومالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا والسنغال ، وضمت ثروات ومناجم الذهب والملح في وقت انخفض فيه الإنتاج الأوروبي.
رحل الزعيم المسلم منسا موسى من تمبكتو إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج خلال 1323 م إلى 1325 م وحمل معه قافلة ضمت 15,000 مادة مختلفة من المؤن.
ووفقا للحسابات المعاصرة ، كان طول القافلة على مد البصر وكان يوزع الإمبراطور منسا موسى هدايا من الذهب على الجميع ويبني علاقات دبلوماسية. وكانت أخبار ثرواته الهائلة وصلت لأوروبا ، ووضعت دولته على الخريطة في 1339.
ويشير الباحث الجزائري طاهر عبو أن من بين نتائج رحلة منسا موسى أنه أثار الفضول وفتح أعين الطموحات الأوروبية لاستكشاف إفريقيا بحثا عن مصادر الذهب ، بهدف تجاوز التجار في شمال افريقيا الذين كانوا يعملون سابقا كوسطاء في التجارة عبر الصحراء.
اشتهرت تمبكتو في عصرها الذهبي باعتبارها واحدة من المراكز الرئيسة في العالم للمعرفة والتجارة والثقافة الاسلامية. معظم النصوص التي تخبرنا عن مآثر منسا موسى ، وتاريخ التجارة العابرة للصحراء ، كتبت بأقلام مسلمة و بالعربية.
تقول ليزا كورين مديرة متحف بلوك “نريد من الناس أن يفكروا أيضا في من كتب تلك القصة ، وماهي الطرق الأخرى التي ستروى بها القصة”.
وتوافق بيرزتوك على أن هذه الآثار جاءت في الوقت المناسب لتخيل رؤية جديدة للماضي.
وأضافت لدينا فرصة فريدة لاستخدام تاريخ الفن لتأطير هذه الآثار واستخدام سياقها الخاص لإظهار قصة المدن والإمبراطوريات الافريقية المزدهرة التي كانت عاملا أساسيا في تكوين عالم العصور الوسطى “.
وفي الوقت الذي دعا فيه عدد من القادة الأفارقة بإعادة التحف المنهوبة من المتاحف الغربية ، اختار متحف بلوك التعاون مع المؤسسات الأفريقية مثل : المتحف الوطني ومعهد العلوم العامة في مالي واللجنة الوطنية للمتاحف والآثار في نيجيريا، وتم جلب كنوز ثمينة لم يسبق لها عرضها من قبل، من الأقمشة المنسوجة والمصبوغة بالألوان الزاهية يعتقد أنها من أقدم المنسوجات الأفريقية إلى منحوتات الطين والبرونز التي سبقت شهرة برونزيات منطقة بنين.
“قوافل الذهب” أول معرض في الذاكرة الحديثة يسلط الضوء على الحضارات الإفريقية قبل الاستعمار ويعلن التحدي على قناعاتنا.