يقول الله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم : { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89] آية من يطالعها يتوقع أن يكون للقلب في المدونات الإسلامية حديث طويل عن ضرورة سلامته، وضمانات استمراره سالما من الأمراض، وقد قالوا في تفسير القلب السليم : “أظهر ما قيل في القلب السليم: أنه السالم من الشكوك والأوهام، والخواطر الردية، ومن الأمراض القلبية، ولا يتحقق له هذا إلا بصحبة شيخ كامل، يُخرجه من الأوصاف البشرية، إلى الأوصاف الروحانية، ويحققه بالحضرة القدسية، وإلا بقي مريضاً، حتى يلقى الله بقلب سقيم.[ البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 145)]
فإذا ضممت إلى هذا قوله ﷺ في الحديث المتفق عليه : ” ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب” زاد أفق التوقع بأن تزخر مدوناتنا العلمية بالحديث عن آليات الوصول إلى ( القلب السليم).
صحيح أننا لا نخطئ مثل هذا الحديث عن القلب في كتب الرقائق، وشيء من ذلك في كتب العقائد التي تتحدث عن الإيمان على غير طريقة علماء الكلام… لكن هذا لا يكفي، وقد نطق القرآن بأن الفلاح مرهون بالقلب السليم، حتى قال مَن قال من علمائنا في معنى الآية : “يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ، أي: لا ينفع فيه مال، وإن كان مصروفاً في وجوه البر، ولا بنون، وإن كانوا صُلحاء متأهلين للشفاعة، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ” [البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (4/ 144)].
سلامة القلب والعقلية الأصولية والفقهية
وليس مقصودنا أن كان يتم الحديث عن ( سلامة القلب) في كتب الفقه والأحكام، فنحن نتفهم توزيع المباحث الدينية على فروع العلم الديني، بحيث يختص كل فرع بمباحثه.
لكن المقصود أن الاهتمام ب ( سلامة القلب) قد غاب عن تشكيل العقلية الأصولية والفقهية للأسف!
فكتب الأصوليين، حينما وضعت ضوابط ( العلة) التي ينبني عليها الأحكام، جعلت من شروط العلة اشتمالها على ما أسموه ( المناسب) والمناسب في اصطلاحهم هو: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مفسدة.
وإلى هنا، لا يبدو وجه للاستغراب، لكن غياب ( مقصد سلامة القلب) عن تشكيل العقلية الأصولية، جعل كثيرا من الأصوليين في كثير من الأحكام لا يرون من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن. [مجموع الفتاوى (32/ 233)]
ومع أنهم قسموا المصالح إلى ( مصالح دنيوية، ومصالح أخروية ) إلا أنهم جعلوا المصالح الأخروية هي التي تُعنى بسياسة النفس وتهذيب الأخلاق ؛ وجعلوا الدنيوية ما تضمن حفظ الدماء والأموال والفروج والعقول والدين الظاهر.
لكنهم بين هذين النوعين من المصالح، أهملوا العبادات الباطنة والظاهرة من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبة الله وخشيته، وإخلاص الدين له والتوكل عليه، والرجا لرحمته ودعائه ونحو ذلك من غذاء القلوب للوصول إلى ( القلب السليم).
الاهتمام بالبدن والمال
فتجد أن العلل التي أناطوا بها الأحكام، إنما تعود لمصالح ( البدن والمال) فلا تكاد تجد من بين هذه الحِكَم والمقاصد ما يعود لمصلحة ( القلب وسلامته).
فالميسر، والخمر علة تحريمهما عندهم، إفسادهما للمال والبدن والعقل، ومقصد التحريم الحفاظ على ( المال والبدن والعقل) لاحظ الاهتمام بالبدن والمال !
مع أن القرآن يصرح بمقصد آخر للتحريم، قال تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ } [المائدة: 91].
فهل نجد الصد عن ذكر الله تعليلا لتحريم ( الخمر والميسر) لدى الأصوليين والفقهاء، وإذا وجد ذلك فما نسبته وحجمه إلى التعليل بفساد ( المال والبدن)!
ولهذا ربما تردد بعض الفقهاء المعاصرين في تحريم بعض صور الميسر، مثل ( النرد) الذي جاء التحريم فيه صريحا في السنة، وأطبقت المذاهب الثمانية على تحريمه، فربما بحث بعض الفقهاء المعاصرين عمن يجيزه من العلماء من خارج المذاهب الثمانية، ومع مخالفة ذلك للنص؛ لأنه يرى أنه من الممكن ممارسة لعبة النرد مع الحفاظ على ( الصلاة)، وأنها اللعب بها لا يصد بالضرورة عن الصلاة.
وهو هنا ينظر إلى مجرد ( الصلاة الظاهرة من أركان وواجبات)، ولا ينظر إلى أثر الصلاة في اشتمالها على إصلاح القلب وإعماره بذكر الله، كما يغفل عن أن هذا المعنى الأخير هو أرجى مقاصد الصلاة، وهذا ما نص عليه القرآن بقوله : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] أي : إعمار القلب بذكر الله، المتحصل من الصلاة أكبر وأهم من كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر!
هل يدرك العوام هذا؟
ومع هذا، فإن تراثنا الديني لا يخلو من ومضات، تقفز إلى هذا المعنى من اعتبار ( سلامة القلب) مقصدا أصيلا من مقاصد الدين، ربما يمكن التمثيل لمثل هذه الومضات بما رآه الإمام أبو حامد الغزالي من أن ذهاب الخشوع مبطل للصلاة، وقال معللا على عدم قول الفقهاء بذلك : ” فإن قلت: إن حكمت ببطلان الصلاة وجعلت حضور القلب شرطاً في صحتها خالفت إجماع الفقهاء؛ فإنهم لم يشترطوا إلا حضور القلب عند التكبير؟
فاعلم أن أن الفقهاء لا يتصرفون في الباطن، ولا يشقون عن القلوب، ولا في طريق الآخرة، بل يبنون أحكام الدين على ظاهر أعمال الجوارح، وظاهر الأعمال كاف لسقوط القتل وتعزير السلطان؛ فأما أنه ينفع في الآخرة فليس هذا من حدود الفقه! [إحياء علوم الدين (1/ 160)].
وهذا تقرير من الغزالي لأصل الفكرة التي ينقدها هذا المقال، أن الاهتمام ب ( سلامة القلب) قد غاب عن تشكيل العقلية الأصولية والفقهية، وأصبح هذا عرفا معروفا مقررا لدى الفقهاء!
وها هو الدردير المالكي حينما حاد عن فقه الفروع في كتابه ( الشرح الصغير) إلى شيء من فقه النفس، حينما فعل ذلك لامه محشي كتابه، الشيخ الصاوي قائلا : ” كان المناسب للشارح أن لا ينقل هذا المبحث ؛فإن هذا لقوم مخصوصين يطلبونه بالخصوص لا لكل من يحضر الأحكام الفقهية فلا يؤخذ بالقال” [بلغة السالك لأقرب المسالك (4/ 802)].
لكن إذا لم يكن ( ما ينفع في الآخرة) من عمل الفقهاء كما قال الغزالي، فأي فائدة للفقه إذن، هل هو كما قال الغزالي، عمل الفقهاء هو الدلالة عما ينفع في الدنيا، ويجنبك القتل والتعزير!
وإذا كان هذا عرفًا لدى الفقهاء، فهل يدرك عوام المسلمين وعمومهم أن هذا هو عمل الفقهاء!