إن من أكبر المصاعب التي تواجه الشباب اليوم ارتفاع تكاليف الزواج؛ مما أدى إلى تأخير سنه، أو العزوف عنه؛ وذلك لارتفاعها بقدر كبير، حتى أصبح معظم الشباب لا يطيقها، أو يقدر على تدبيرها، وصار يصحب الزواج مشاكل مادية ومعنوية؛ وذلك لغلاء المهور، وارتفاع تكاليف متطلبات ليلة العرس، وصعوبة امتلاك أو تأجير مسكن، بالإضافة إلى تدبير مستلزمات الشقة من أثاث وفرش وأدوات المطبخ وغيرها، وتجهيز العروس بالجديد من الثياب والأحذية والحجاب وأدوات التجميل ونحوها، وكذلك شراء الذهب، وجلب الهدايا الغالية الثمن لها، وتحضير الطعام الكثير في ليلة الفرح، وإيجار صالة العرس والكراسي، وخدمات تحضير الوجبات، وفرقة الموسيقى، والفنان، والإنارة، وإيجار فستان العرس، وتكلفة الكوافير والمكياج واللبس وغيرها؛ فأدى كل ذلك إلى ارتفاع تكلفة العرس بصورة خرافية، وهذا من الأخطاء الشائعة في المجتمعات الإسلامية؛ بل إن في بلاد الغرب والكفر لا يكلف الزواج بقدر ما يكلف في بلاد الإسلام الذي يدعو إلى الزواج والعِفَّة؛ ولكن كيف ومن أين للشباب بهذه المبالغ الطائلة التي تحتاج إلى سنين لجمعها؟! إن هذه لمعضلة اجتماعية مدسوسة تنخر في عظام أمتنا، ونتج منها أن انتشرت العزوبية والعنوسة في أوساط المسلمين، بعد أن كانوا يعجِّلُّون بالزواج في الماضي، ويعيشون برضا وسلام، وأدى ذلك إلى مشاكل اجتماعية ودينية وأخلاقية كثيرة.
المشاكل الدينية
وأما المشاكل الدينية فقد انتشرت الفواحش والزنا، وأصبح الشباب في ضغوط نفسية وجسدية كبيرة؛ مما أدى إلى زيادة معدل الجريمة، وكذلك جعل ذلك بعضهم يتجهون إلى المخدرات والكحول، والبعض الآخر اتجه إلى العلاقات غير الشرعية، وإلى الزواج العرفي وغيرها، وأثَّر ذلك سلبًا في مجتمعاتنا، فتدنَّى المستوى الأخلاقي، وانحطت القيم، وأصبحت أوساط المسلمين لا تختلف كثيرًا عن أوضاع غيرهم؛ فتجد أطفال الزنا واللقطاء ملقين أمام أبواب المساجد، أو حتى على أكوام القمامة، وتجد الشباب والبنات يجلسون في زوايا الطرقات المظلمة، وتجد العفة والحياء ترثي حالها على ما كان، فلم يعد هناك حجاب ولا آداب ولا حدود، وكل هذا نتيجة غلو تكاليف الزواج، وعجز الشباب عنه، وعن كبح نزواتهم.
المشاكل الاجتماعية
وأما بالنسبة للمشاكل الاجتماعية؛ فقد نتج عن ارتفاع تكلفة الزواج عزوف الشباب عنه، فأصبح الشاب المسكين عليه أن ينتظر من خمس إلى عشر سنوات ليستطيع أن يتزوج ويعف نفسه، أو يعتمد على مساعدة أهله. وأصبح الزواج كالشيء الترفيهي الذي يتنعم به الأغنياء، ولا يستطيعه معظم الشباب المتخرج حديثًا في الجامعات، وكذلك الحال بالنسبة للفتيات اللاتي يتطلعْنَ للزواج في سن مبكرة، ولكن ما حدث نتيجة غلاء تكاليف الزواج أن تأخَّر سِنُّ الزواج للفتيات كثيرًا، وانتشرت العنوسة بشكل كبير، ونتج من ذلك جيل من العوانس والعزاب بصورة لم يرها المجتمع المسلم في عصر من العصور.
وهذا غير أن عدد النساء يفوق عدد الرجال، وقد زادت الهوة في الفارق العددي بين الجنسين بشكل كبير في العقود الأخيرة، وليس هذا بمستغرب؛ فقد تنبأ بحدوثه نبيُّنا ﷺ، وذكره ضمن علامات الساعة الصغرى، حيث قال: ((من أشراط الساعة: أن يقل العلم، ويظهر الجهل، ويظهر الزنا، وتكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد)) [متفق عليه]، وهذا يقلل من فرص الزواج المتاحة، ثم أضف إلى ذلك الفقر، وقلة فرص العمل للشباب، ومنافسة النساء عليها؛ حيث أصبحت المرأة تنافس الرجل في التعليم، وفي فرص العمل في كل المجالات؛ مما أدى إلى تقليل المتاح منها للشباب، فتكالبت كل هذه الأسباب، وأدت إلى زيادة معدل العنوسة في كل مكان، وخلق هذا أزمة عالمية؛ ولذا كان من المهم على الباحثين، وكُتَّاب المجتمع والمهتمين بالإصلاح البحث في هذا الموضوع تحديدًا؛ وذلك لأثره الكبير في الناس، حيث إن الزواج هو من الغايات التي يرنو لها معظم الشباب؛ ولذا كان عجزهم عنه له أثر كبير في معظم قطاعات المجتمع، وسنحاول هنا وضع حلول وتوصيات تساعد على حل هذه المشكلة التي خلقت أزمة في الأمة الإسلامية.
البحث عن الحلول
ولبحث حل لهذه الأزمة لا بد من تجريد الفكر والنظر بواقعية إلى المشكلة وأسبابها والحلول المحتملة، ثم إبعاد العادات والتقاليد، وغسل المخ الموروث في مجتمعاتنا أبًا عن جدٍّ، فنحن نعيش هذه البرهة من الزمان بكل مشاكلها وظروفها، ونحاول التعايش معها دونهم، فالأجداد عاشوا في زمانهم بما يناسب ما كان متاحًا لهم، وما استطاعوا عليه، ونحن أبناء اليوم تختلف حاجاتنا وظروفنا عنهم، وكذلك ما هو متاح لنا؛ فإذن هذا التفكير يحل من عقد الارتباط بالماضي وبالعادات، فكلٌّ مُيسَّرٌ لزمانه ولظروفه المحيطة به، ولما يسَّره الله له، وبعد هذا التجريد نعمل الأذهان بالفكر والنظر فيما هو الحل.
- والحل الأول والأهم الذي تكلم عنه الكثير من الناس ودعاة الخير هو القبول بالقليل، وتقليل المهور، وهذه سنة الإسلام، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور: 32]، وكذلك تقليل تكاليف الزواج، وهذا بيد النساء وأوليائهم. ويكمن هذا في تغيير تفكير المجتمع ككل بتغيير تفكير أفراده وعوائله، فمثلًا ماذا لو غيرنا تكليف الزواج إلى حوالي ألف درهم؟! من المؤكد أن المتبادر للذهن هو أن هذا مستحيل؛ ولكن أثبت الواقع غير ذلك، فقد قدَّر الله أن حضرتُ زواجًا في أمريكا لأمريكي حديث الإسلام وفتاة مغربية مسلمة، وقد كلَّف زواجهما ما يقرب من الرقم الذي ذكرت، وذلك بأنه عُمِل اجتماع للزواج في المسجد، حيث حضره الكثير من الناس، وتم توزيع برتقال على الحضور، ثم بعد عقد القران بدأت التبريكات للعروسين، وأكل الناس البرتقال، وتبادلوا الأحاديث والمرح، وكان جوًّا جميلًا، وسعد العروسان، وتم الزواج على بركة الله، وبعد انتهائه ذهب العروسان إلى شقتهما المتواضعة التي استأجروها بما بقي معهم من المال، وتم بحمد الله إعفاف نفسين مسلمتين وإسعادهما بأقل التكاليف، وما حدث ذلك إلا بتغيير تفكير الناس، والتخلص من العادات الاستعراضية التي يقومون بها دون تفكير، وتكلفهم الكثير من الأموال، وربما في هذه الحال لم يكن تغيير في التفكير؛ لأن العريس لا يعرف عن هذه العادات؛ وإنما أتى من مجتمع آخر، وتحول للإسلام، وتزوج بقدرته القليلة، وقبلت به العروس- بارك الله بها ولها- وها هي سعيدة مع زوجها، وأنجبت البنين والبنات والحمد لله؛ فإذن الحل هو في تغيير نفوس الناس، والتفكير خارج الصندوق، فإن بدأ المسلمون يفكرون بهذا الشكل، ويتخلصون من طقوس الزواج المكلفة هذه؛ لعاشوا ببساطة وسهولة، وتزوج الناس في سن مبكر، وأنجبوا، وسعدوا، وانتهت مشاكلهم، وكذلك لانتهت معها عادات وتقاليد الزواج التي لا طائل منها، وليست من دين الإسلام في شيء؛ بل هي مملوءة بالبدع والخرافات، والتشبه بالكفار، وغيرها من المعاصي والذنوب.
- وهناك حل آخر ربما يكون أكثر صعوبة قليلًا؛ حيث يحتاج إلى تنظيم كبير؛ ألا وهو الزواج الجماعي، وقد كانت الدولة تنظمه عن طريق ديوان الزكاة للشباب في بلد ما، وحلت به مشاكل كثيرة للشباب، ولم تعد هناك مشكلة في الزواج، فأصبح الغني والفقير بمقدوره الزواج، كُلٌّ حسب طاقته بما يستطيع، فجزى الله القائمين على ذلك خير الجزاء، وأتمنى أن تقوم كل الدول الإسلامية بمثل هذه المبادرات الطيبة لمساعدة أبنائها وبناتها، وإحصان مجتمعاتها من الرذيلة والفتن.
- والخيار الثالث قد ذُكِر في القرآن، ويمكن أن يكون فيه حل وإصلاح للمجتمع؛ ألا وهو التعدد، فبدلًا من وجود عشرات أو مئات النساء دون زواج يمكن أن يتشاركن المتاح، وهو حل رباني، وهذا دين الله الذي نُسلِمُ له، ونسلِّم لأوامره، ونسأل الله السلامة، وعلى الزوج في هذه الحال العدل بين زوجاته، والإنفاق عليهن، وعلى أبنائهن منه، فإن لم يستطع العدل فواحدة.
- ومن الحلول أيضًا مساعدة الأهل أبناءهم على الزواج، ودعمهم ماديًّا ومعنويًّا، ومساعدتهم في البحث عن عمل، وكذلك مساعدة المخطوبة لخطيبها، والزوجة لزوجها بالعمل والتوفير، وأيضًا مساعدة والد المخطوبة للخاطب بتقليل الطلبات وتخفيفها، وفي هذا أجر كبير، ولا يُظن أن هذا فيه تقليل من كرامة البنت كما يعتقد البعض، فخطيبها سيعوضها بالأكثر في المستقبل بعد أن تصير زوجته، ويتيسر حاله، فلتصبر عليه وقت ضيقه وتسنده، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وحتى إن لم يفعل، فإن أجرها ثابت إن شاء الله، ولو أن الفتيات استطعْنَ توفير احتياجاتهن للعرس من الثياب، وبعض مستلزمات المطبخ والفرش والأغراض التي يحتجْنَ إليها؛ لخفَّفْنَ على الخاطب كثيرًا من العبء.
- وأما من لم يقدر على كل هذه الحلول؛ فقد أوصاه النبي ﷺ بالصوم، في قوله: ((من استطاع الباءة فليتزوَّج، فإنه أغَضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء))[2]، وقال تعالى:{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [النور: 33].
غلاء تكاليف الزواج وما ينتج عنه من منظور مقاصد القرآن الكريم
- غلاء تكاليف الزواج يؤثر سلبًا في الشباب بعدم سد حاجتهم؛ فيلجأون إلى العلاقات المحرمة، وهذا يتنافى مع مقصد تهذيب الأخلاق.
- غلاء تكاليف الزواج ينتج عنه تأخير أو عزوف كثير من الشباب عنه، وينتج من ذلك انتشار الفواحش والزنا، وهذا يتنافى مع مقصد التشريع؛ وذلك لأن الزنا من كبائر الذنوب التي توجب الحد، قال تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
- والزنا يؤثر سلبًا في الفرد؛ حيث لا يقبل بالزواج منه إلا زانٍ مثله فيما بعد، وهذا يتعارض مع مقصد صلاح الأحوال الفردية والجماعية، قال تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3].
- والزنا يزيد من عدد المواليد غير الشرعيين الذين يتم إلقاؤهم في الشوارع ودور الأيتام، وهذا يتناقض مع المقصد العام للشريعة؛ من حفظ النفس والدين والمال، والعرض والنسل.
- وانتشار الزنا يضعف من المجتمع المسلم والدولة الإسلامية، ويتنافى مع مقصد سياسة الأمة ووحدتها.
الحلول والتوصيات المقترحة
- تقليل تكاليف حفل الزواج بقدر المستطاع بإلغاء كل ما هو غير مطلوب، ويمكن تحقيق ذلك بما يلي:
- جعل حفل الزواج يوم واحد بدلًا من يومين أو ثلاثة، فيتم العقد والزواج في نفس اليوم، وجعل ذلك عرفًا لتقليل التكلفة إلى النصف أو أقل.
- تقليل تكلفة حفل يوم العرس؛ مثل: الفنان والحفل والصالة، وتوفير المال الذي كان سيصرف على القاعة والزفة والإنارة وغيرها، كما سيقلل البزخ في الطعام، ويمكن عمل عقد في المسجد، وتوزيع فواكه على الحضور؛ مثل: البرتقال أو البلح.
- تلبيس العروس في منزل ذويها وتزويقها بالمعقول المبسط لزوجها.
- عدم تكثير المعازيم، فربما أهل العريس والعروس هم الأهم، ثم الأصدقاء المقربون والجيران.
- عمل تصميم لبطاقة دعوة إلكترونية، ويعزم بها الناس عبر المجموعات في الواتساب ونحوه؛ لتقليل تكلفة الطباعة والتوزيع.
- تقليل المهر المتعارف عليه؛ حتى لا تشعر العروس بالنقص عن مثيلاتها.
- عمل الزواج الاجتماعي، ويفضل أن يتم تنظيمه بواسطة الدولة.
- تشجيع الناس لعمل عادة جمع مساهمة الأهل والجيران والحضور بمبالغ بسيطة حسب الاستطاعة لمساعدة العروسين.
- وأخيرًا استغلال المال المتاح الذي تم توفيره من الخطوات أعلاه في تجهيز سكن الزوجية بالضروري من الأثاث الذي يحتاج إليه العروسان في عيشهما؛ مثل: شراء غرفة نوم وجلوس، وبعض الأواني المنزلية والفرش.
هذا والله تعالى أعلم، ونسأله سبحانه أن يعف شباب وبنات المسلمين، ويحفظهم من الفواحش، كما نسأله أن يخفف عنهم ما يجدونه من صعوبات مادية، وييسر عليهم وعلى المسلمين أجمعين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.