انطلاقاً من قناعتي الشخصية بأن الإبداع إنما هو الأسلوب أو الكيفية التي نؤدي بها أنشطتنا الحياتية المختلفة، وليس هو تلك الأنشطة، أو بعضها- كما هو متعارف عليه..
الإبداع ليس نشاطاً (منفصلاً) عن أنشطتنا، وبالتالي فهو ليس تلك الوسائل والأدوات، كالرسم والكتابة والشعر والإلقاء، ونحوها من المعبرات التي توحي بأن هناك روحاً إبداعية كامنة..
الكتابة والشعر والرسم والإلقاء،… عبارة عن أدوات ووسائل للتعبير عن خلفية ثقافية وفكرية- ذات أبعاد محددة- لمن يُطلق عليه لقب (المبدع)..
ولعل الفقرات الثلاث السابقة، قد أظهرت ما يمكن أن أسميه بـ(عناصر المعادلة الإبداعية).. وأرجو أن تعيد- عزيزي القارئ- قراءة ما سبق من فقرات؛ للوقوف على تلك العناصر..ِ
أظهرت مقدمة المقال، ثلاثة عناصر أو زوايا توضح المسار الإبداعي لمن يُسمى بالمبدع:
أسلوب أداءه للأنشطة الحياتية..
الأدوات والوسائل التي يعبر بها عن الإبداع- أحياناً..
الخلفية الثقافية والفكرية التي ينطلق على ضوئها..
ويمكننا تمثيل تلك العناصر برسم مبسط كالآتي: خلفية ثقافية وفكرية.. يؤدي المبدع على ضوئها أنشطته الحياتية… وقد يعبر عن ذلك ببعض المعبرات، كالرسم والشعر ونحو ذلك… ثم تأتي (الخطوة الأخيرة) التي سأذكرها لاحقاً (تسخير الإبداع لخدمة المجتمع).
بالرؤية المتكاملة لمسار الإبداع، يمكننا- وبكل سهولة- التعرف على (المبدع)، وبإمكاننا بعد ذلك- أن نضع تعريفاً سهلاً للإبداع؛ نتجنب به الاستغراق في عالم التعريفات الانشطارية المتضاربة..
وبمناسبة ذكر (الانشطارية)- فإن الانشطارية المزمنة التي أصابت معظم قطاعات حياتنا- قد أثرت بشكل مباشر في فهمنا للإبداع، ومن ثَم، فيما يتفرع عن ذلك الفهم- كنظرتنا إلى مَن يسمون بالمبدعين، وتذوقنا لما يقدم تحت عنوان الإبداع، وما إلى ذلك..
ولعلي أجيب مَن يتساءل عن علاقة (الخلفية الثقافية والفكرية) بموضوع الإبداع- بأن (الإبداع) كائن غير ذي قِيَم، سواء أ فهمنا الإبداع بالمعنى الشائع، أو بالمعنى الذي ذكرتُ..
المعنى الشائع للإبداع، أنه (النشاط أو مجموع الأنشطة التي يقوم بها من يوصف بالمبدع).. وأن وصف (المبدع) لا يمنح إلا لمن قام بأنشطة نمطية، أطلقت عليها فيما سبق (أدوات ووسائل للتعبير)، كالرسم والكتابة والشعر،…
بل إن من الناس من يرى أن الإبداع إنما يكون في كيفية تقديم تلك (الأدوات والوسائل) لجمهور المتلقين.. فالكاتب المبدع عنهم، هو من ينمق كتاباته، ويزخرفها بأجمل الألفاظ، ويحشوها بالمصطلحات، ويتكلف البلاغة، ويتقعر في رسم الحروف،.. ومثله الرسام المبدع، والشاعر المبدع،… الخ.
وبما أن جميع التعريفات والتوصيفات التي ذكرتها وهي (تعريف متكامل وتعريفان انشطاريان)- متفقة في تركيزها على جانب (الأنشطة والكيفيات)، فإن الناحية القيمية ستظل مستبعدة بطبيعة الحال؛ لأن هذه الأنشطة والكيفيات ليست كائناً (عاقلاً) يتحتم عليه الالتزام بقيم وسلوكات، أو تقاليد، أو نظم..
وبنا على التفصيل السابق، فإن الكائن القيمي- أي المطالَب بالقيم- فيما يتعلق بموضوعنا وغيره- هو الشخص المبدع نفسه، بغض النظر عن التعريف الذي منح على أساسه اللقب..
وبما أن الأمر كذلك، فإن جميع الأنشطة التي يقوم بها ذلك الإنسان (المبدع)- بما فيها أدوات ووسائل التعبير- يُفترض أن تنطلق من قاعدته القيمية التي أسميناها سابقاً (الخلفية الثقافية والفكرية)..
وقد قصدت بالاستطراد في تقرير ما سبق، الوصول إلى نقطة مهمة تتعلق بما يطلق عليه (برامج تنمية الإبداع ورعايته) ونحو ذلك من لافتات و(شعارات).. وسأطرح عليك- عزيزي القارئ- تساؤلاً بريئاً في العنوان التالي: تنمية الإبداع أم تنمية المبدع؟
بموجب تعريفنا للإبداع بأنه (الكيفية أو الأسلوب الذي به الشخص المبدع جميع أنشطته الحياتية)- فإن جهود ترقية الإبداع وتطويره، ينبغي أن توجه- أول ما توجه- إلى ذات الإنسان (المبدع)، لا إلى أدوات ووسائل تعبيره عن الإبداع؛ وذلك حتى نحصل على دفق إبداعي متواصل (مستمر)، ومتصل- في ذات الوقت- بقيمنا، وأعرافنا الاجتماعية السامية..
ليس ذلك فحسب، بل إن الجهود التي يفترض أن تبذل في هذا الإطار- ينبغي أن تنطلق من تصور ذاتي، وخلفية فكرية تستصحب قيمنا وثقافتنا، ورؤية واضحة لأهداف الإبداع، ودور المبدعين، فضلاً عن وضوح البرامج المعدة لتأهيلهم وتنمية إبداعاتهم، وما إلى ذلك..
تمليك المبدع تصوراً صحيحاً عن الإبداع، وما يرتكز عليه، وما هم مطلوب من المبدعين- يعطيه إحساساً بمكانته في المجتمع، وموضعه بين بناة حضارته، ورافدي فكره الإنساني الرفيع..
وفي ذلك الإحساس، تكريم عظيم للمبدع، يفوق ما يقدم لمن يسمون بالمبدعين- من جوائز وحوافز وميداليات وأوسمة..
وفيه إطلاق لسراح المبدع من أسر ثقافة الجوائز الواهنة، إلى ثقافة الإبداع الذاتي الحر، المنطلق من حاجة المجتمع، ومن قيمه وآدابه في نفس الوقت.. فتتكامل حينها الخلفية الثقافية (للمجتمع) مع حاجته لمبدعين (يؤدون أدوارهم بإبداعية)- يحفظون ما تبقى من ماء وجهه المهراق بالتسول على موائد (اللئام) في عالمي الفكر والحضارة..
بتنميتنا للمبدع، ينمو الإبداع بالضرورة، وعندما ينمو الإبداع المرتكز على نمو الإنسان- تتطور الحياة بتوازن، وتنمو بتكامل.. تكامل بين عالم القيم وقيم العالم.. وحينها فقط، سيدرك (الآخرون) أن حياتنا- نحن- عبارة عن مجموعة من الأجزاء المترابطة (إذا اشتكى منها عضو) تداعت له سائر الأجزاء (بالحمى والسهر)..
وحينها فقط، سندرك- نحن- أن ما لدينا من ثقافة وفكر، هو أفضل ما يمكنه البقاء في عصر العولمة والسماوات المفتوحة، وقد كنا ندرك من قبل- أن البقاء لا يكون إلا للأقوى.. وها نحن ذا نملك مفاتيح البقاء.. فأرجو أن نكف عن تضييعها، فضلاً عن أن ننكر أنها (مفاتيح)..