لدينا الكثير من الشواهد على أن العلاقات الإنسانيَّة تعدُّ مصدراً من أهم مصادر السعادة والهناء، ولدينا أيضاً الكثير من الدلائل على أن الحياة الاجتماعية هي محصِّلة مبادرات أبناء المجتمع ومحصِّلة عطاءاتهم وسلوكاتهم العامَّة، حيث إن من الثابت أننا لا نستطيع بناء مجتمع أقوى من مجموع أفراده، أو بناء مجتمع فاضل من أشخاص سيئين تماماً مثلما لا نستطيع بناء جدار صُلب من لَبِنات هشة.

ومن هنا فإن تنمية النزعة الإنسانية والمشاعر الإنسانية تعني أننا ننمِّي الجانب المشترك من حياتنا، أو جانب التبادل والأخذ والعطاء.

وأودُّ هنا أن أشيرَ إلى أن المرء لا يكون مواطناً صالحاً إلا إذا كان مسلماً صالحاً؛ لأن صلاح الأوطان وأمنها وازدهارها يتطلَّب مسلماً صالحاً، وصلاحُه يتجلَّى في إعداده لنفسه كي يكون لَبِنَةً صالحة وقوية في الصَّرح الاجتماعي، وهذا يعني استقامته في أموره الشخصيَّة حتى لا يكون عاملَ إفساد، أو عِبئاً على أهله أو على الدولة، كما يتطلَّب قدرته على الإسهام في حمل الكَلِّ والضعيف والمنكوب وصاحب الظَّرف الصعب والطارئ، وهذا كله يتطلَّب تنميةَ مشاعر الإحسان والعطاء والتبرُّع….

ومن اللافت أننا حين نطلق كلمة (عطاء) فإن الذي يتبادر إلى أذهان معظم الناس هو العطاء المادي: عطاء الأموال والأشياء، وهذا يحتاج إلى مراجعة وتدقيق، وقد أعجبني قول أحدهم: ((حين نكون صغاراً نظنُّ أن السعادةَ في الأخذ، فإذا كَبِرنا وجدنا أن السعادةَ في العطاء، وحين نكون صغاراً نظنُّ أن العطاء هو عطاءُ المال، فإذا كَبِرنا اكتشفنا أن العطاء الحقيقيَّ يكمن في التعاطف والاهتمام والتسامح والتشجيع ومنح الأفكار والرُّؤى والأهداف)).

ولعلي أشير في سياق العطاء والإحسان إلى أن في إمكاننا أن نتحدث هنا عن ثلاث مراتب:

1 – كفُّ الأذى عن الناس، وتجنُّب إحراجهم أو إثارتهم… وهذا أدنى شيء يمكن أن يقدمه المسلم لأخيه المسلم، وهو ليس بهيِّن، إذ إن معظم ما يعانيه المسلمون في مجتمعاتهم من إساءات شعورية ومن ظُلم وهضم للحقوق، ليس مصدره أناساً يسكنون في الِمرِّيخ، ولا نعرف عنهم أيَّ شيء، إنهم مسلمون، وبعضُهم ظاهره الالتزام، لكنَّ لديه نواقصَ في تربيته أو فهمه للدين أو في سيطرته على غرائزه.

وإن لدينا العديدَ من النصوص الشريفة التي تؤكِّد معنى كفِّ الأذى بوصفه مطلباً شرعياً، وبوصفه مساهمة إيجابيَّة في تشييد الصَّرح الاجتماعي، وفي هذا يقول الله – تعالى -: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [1].

وقال صلى الله عليه وسلم – : ((المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمونَ مِن لسانِه ويَدِه، والمهاجرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللهُ عنه))[2]، أي المسلمُ الجدير باسم مسلم، والمسلمُ المتحقِّق بمعاني الإسلام،  هو الذي يَسلم المسلمون من إيذائه باللسان أو باليد.

وقال – عليه الصلاة والسلام – ((مَن أحبَّ أن يُزَحزَحَ عن النَّار، ويدخلَ الجنَّةَ، فَلتأتِهِ مَنيَّتُه وهو يُؤمنُ باللهِ واليوم الآخِر، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحبُّ أن يُؤتى إليه))[3].

وهذا في الحقيقة ميزانٌ واضح ودقيق لتحديد السلوك الذي ينبغي على المسلم أن يسلكَه، ولو أننا استخدمناه في جُلِّ شؤوننا لاختفى الكثير من الشرور في حياتنا، ولسَعدنا وأسعدنا.

نحن نحب من غيرنا ألا يذكرَنا إلا بخير، كما نريد منه أن يدافعَ عنا في غيابنا، ونحب ألا يعتديَ على شيء من حقوقنا، وأن يعاملَنا معاملة قائمة على الصدق والأمانة والنصح… وإن علينا في المقابل إذا ما أردنا النجاةَ، وأردنا أن نُزحزَح عن النار أن نقدِّم للناس من حولنا ما نحب أن يقدِّموه لنا.

سأل رجل ابن عمر – رضي الله عنه – : أن اكتُب لي عن العلم، فقال ابن عمر: ((إن العلمَ أكثرُ من أن أكتبَ به إليك، ولكنْ إذا استطعتَ أن تَلقى اللهَ – تعالى – كافَّ اللسان عن أعراضِ المسلمين، خفيفَ الظَّهر من دمائهم، خَميصَ البطن من أموالهم، مُلازماً لجماعتهم فافعل))

إن مما يستدعي الأسفَ والجَزَعَ أن مجتمعاتنا تزحف نحو مُستنقع الرأسمالية بسرعة فائقة، ولهذا فإنك ترى اليومَ من المسلمين من يملك الجرأةَ على أكل حقوق ألفٍ من العمال، ومن ثَمَّ إدخال الضِّيق وإلحاق الأذى والارتباك بألف أسرة، ليس في سبيل سدِّ حاجاته أو الحصول على بعض ما هو ضروريٌّ له، ولكن من أجل زيادة رَفاهيته وفتح فُروع جديدة لمؤسَّسته، وهذا من الظلم الصريح الذي تُخشى عواقبُه في الدنيا والآخرة.

وإن لدينا عشرات الألوف من الشباب المدمنين على المخدِّرات، والذين تحوَّلوا إلى مشكلة كُبرى، تواجه أُسرَهم، وتواجه الدولة والمجتمع، وهؤلاء المدمنون ما وقعوا فيما وقعوا فيه إلا بسبب رُفَقاء السوء المتحالفين مع الشيطان والمالكين لكلِّ أدوات الإغواء، وبسبب المهرِّبين والمروِّجين للمخدِّرات، وهؤلاء جميعاً ينتسبون إلى الإسلام ويعيشون بين ظهرانَي المسلمين، ويُحسبون عليهم، ولهذا فقد صدق فعلاً من قال: ((لا يستطيع أحدٌ أن يفعلَ بالمسلمين أسوأَ مما يفعلونه بأنفسهم))!.

وهنا أود أن أشيرَ إلى نقطة مهمة، هي أن الناسَ كلما درجوا في سُلَّم الحضارة صارت حساسيتهم نحو الغِلظة والجفاء والاعتداء أشدَّ، وذلك لأنهم يتوقَّعون من غيرهم درجةً عالية من اللطف والرقَّة والاهتمام، وتتفاقم المشكلةُ حين نمتلك من الحضارة الأثاثَ والرِّياش والآلات، ويظلُّ الإنسان على بُدائيته بعيداً عن التهذيب والشفافية والتأنُّق في السلوك! وهذا يحدث لدى الناس حين لا يَبذلون ما يكفي من الجهد في التربية الاجتماعية، وحين تحدثُ طفرة في العمران، على حين يظلُّ المجتمع عاجزاً عن استيعاب التغيُّرات الثقافية والأخلاقية المواكبة للنموِّ العمراني.


[1] سورة الأحزاب: 58.

[2] متفق عليه من حديث عبدالله بن عَمرو.

[3] رواه مسلم من حديث عبدالله بن عَمرو.