ودّع العالَمُ نظامَ الرق الذي كان قد أوجده واخترعه من قبلُ، وتعايش معه وأوجد له قوانين ولوائح لتسييره. وقد عمل الإسلام على تجفيف منابعه من ناحية، وعلى الترغيب في عتق من ابتُلي به من ناحية أخرى.

ولم يكن بوسع المسلمين أن يقرروا بإرادة منفردة إنهاء نظام الرق، فهذا الإجراء يحتاج إلى توافق دولي، لأن معنى أن يقرر المسلمون وحدهم إنهاء استرقاق الأسرى، أن الرق لن يطال غير المسلمين وحدهم ، أما المسلمون فلم يقرر أعداؤهم إبطال نظام الاسترقاق فيهم، فسيظل الرق من نصيب المسلمين وحدهم.

ولمّا كان نظام الرق معمولا به، كان على الإسلام أن يتعايش معه بتقديم مجموعة من القواعد والأحكام لترشيده وضبط مساره.

ربما يظن بعض الناس أن إنهاء نظام الرق يستلزم بالضرورة إنهاء دراسة التصور الإسلامي لفقهه وأحكامه، فما دام الرق قد اختفى فلا حاجة لدراسة نظام التعامل معه حتى لو كان هذا النظام إسلاميا.

وبالفعل فقد بدأت بعض المدونات الفقهية المعاصرة تُلغي الحديث عن باب العتق.

ونحن المسلمين رحبنا بإلغاء الرق من الوجود والتوافق الأممي على إلغائه، ولا نحب له أن يعود، هكذا نفهم ديننا.

لكن الذي تطرحه هذه الورقة أن الحاجة لا تزال ماسة إلى دراسة التصور الإسلامي للتعامل مع الرقيق، وقت أن كان هناك رقيق، ولا تقتصر هذه الحاجة على إبراز حسن تعامل الإسلام مع الرقيق، ولا تشوفه إلى حريتهم، ولكن لهذه الحاجة جوانب أخرى، تتمثل في خصوبة فقه الرق العلمية التي نحتاج إليها في الاجتهاد في بعض النوازل الفقهية المعاصرة.

العورة والرق

خفف الإسلام في عورة الأَمَة ما لم يخفف في عورة الحرة؛ وذلك لما تقوم به الإماء من أعمال مهنية يشق معها الحجاب الكامل، فهل يمكن إناطة الحكم بمقصده هنا لا بعلته، فيخفف في عورة النساء اللواتي يقمن بأعمال مهنية من هذا النوع ولو كن حرائر، كمهن الفلاحة والنظافة !

المسئولية المحدودة

ظهر في القرن الأخير ما عرف بالمسئولية المحدودة للشركاء في الشركات المساهمة، ومعناها أن مالكي الشركة المساهمة لا يُسألون إلا في نطاق الأموال التي قدموها حصصا في شركة المساهمة، فإذا تجاوزت ديون الشركة موجوداتها، فإن مالكي الشركة لا يُطالبون بقضاء هذه الديون من أموالهم الخاصة، بل يقتصر الأمر على موجودات الشركة، وهذا يعني أن مالكي الأسهم مسئوليتهم محدودة في حدود موجودات الشركة فقط. وهذه المسئولية المحدودة لا تتناسب ونظام الشركات في الفقه الإسلامي.

وقد وجد أن كافة الأصول الشرعية الأخرى التي قيست أو فرعت عليها مسئولية الشركة المحدودة لم تخلُ من نظر واضح.

فمن هذه الأصول الشرعية :

1- استدانة المضارب بغير إذن رب المال؛ واعترض على هذا الأصل بأن دائن المضاربة لن يضيع دينه، فهو واجب إما على المضارب وإما على رب المال حسب اختلاف الفقهاء، أما دائن الشركة المساهمة يضيع دينه إذا لم تف موجودات الشركة بحقه تجاهها.

2 – سقوط الدين الموثق بالرهن في حالة هلاك الرهن عند المرتهن. واعترض بترجيح أن الدين لا يسقط بهلاك الرهن؛ فللمرتهن أن يطالب الوفاء من جميع أموال الراهن، ولا تقتصر المطالبة على الرهن الذي هلك.

3- تخريج المسألة على اشتراط المدين على الدائن أنه ليس له المطالبة بدينه إلا من بعض ممتلكاته فقط، بحيث إذا هلكت هذه الموجودات المعينة، أو عجزت عن الوفاء بكامل الدين، سقط حق الدائن مع أن المدين له ممتلكات أخرى. واعترض على هذا التخريج بأن هذا من أكل المال بالباطل حتى لو تراضى الطرفان عليه.

ضمانات السيد لدائني العبد

هنا ذكر بعض العلماء المعاصرين أن الفقه الإسلامي عرف المسئولية المحدودة في نظام الرق، فالسيد مسئول أمام الناس عن عبده مسئولية محدودة في نطاق قيمة العبد المالية فقط، أي أن العبد إذا باشر التجارة، فاستدان، أو تشاجر مع أحد الناس فوجب عليه ضمان مالي، فإن سيده مطالب أمام هذه الاستحقاقات أن يقضيها من مال العبد إن كان له مال، أو يدفع إليهم العبد ليبيعوه فيأخذوا  حقوقهم من ثمنه، فإذا لم يوف ثمنه قيمة هذه الحقوق، فلا يطالب السيد بالقضاء من ماله الشخصي؛ لأن مسئوليته عن عبده مسئولية محدودة، ومن هنا يمكن قياس التزامات مساهمي الشركة المساهمة أمام دائنيها بالتزامات السيد مع عبده أمام المتعاملين معه.

جاء في كتاب المغني : ” وما استدان العبد ، فهو في رقبته يفديه سيده ، أو يسلمه ، فإن جاوز ما استدان قيمته ، فإن لم يكن مأذونا له في التجارة لم يكن على سيده أكثر من قيمته .

فإن أذن له سيده في التجارة، فما يلزمه من الدين هل يتعلق بذمة السيد ، أو برقبته؟ عن أحمد في ذلك روايتان. الأولى : تتعلق بذمة السيد، والثانية تتعلق برقبة العبد.[1]

وقال مالك ، والشافعي وأبو حنيفة : لا يتعلق الدين بذمة سيده، بل بالعبد، إما بالمال الذي في يده، وإما في رقبته وإما في ذمته، على اختلاف بين المذاهب.

الأرباح الرأسمالية والأرباح الإيرادية

الأرباح الرأسمالية، هي الأرباح التي لا يكون سببها نشاط تجاري، بل تنتج بفعل الزمن أو القوانين، كارتفاع سعر العقار مع مرور الزمن، أو بسبب إضافة بعض القوانين.

الأرباح الإيرادية، هي الأرباح التي يكون سببها نشاط تجاري أو خدمي أو صناعي، فالشركة إذا أنتجت شيئا وباعته، وحققت من ورائه ربحا، كان هذا ربحا إيراديا.

الأسهم المحرمة في حدود النسبة المتاحة شرعا –  طالع هنا النسبة المسموح بها شرعا   _ من أباح شراءها، اشترط تطهير أرباحها الرأسمالية والإيرادية معا.

وفي المقابل ذهب الدكتور محمد علي القري إلى أن إسقاط فقه الرقيق يمكننا من تطهير الأرباح الإيرادية فقط، يقول :   ولا وجه عندئذ للقول بتحريم الاستثمار في هذه الشركات أو ملكية أسهمها وإلا كان حراما على المسلم أن يمتلك عبدا يعمل بالربا.

فإن المسلم يكفيه أن يتخلص من الكسب الذي يعلم أنه نتج عن الربا ونحوه من الأنشطة المحرمة،  ولا يلزم أن يتخلص من الزيادة في ثمن السهم، أي الأرباح الرأسمالية؛ لأنها كالزيادة في ثمن العبد عند البيع. [ الشخصية الاعتبارية ذات المسئولية المحدودة، محمد علي القري ، ص 43 ].

واستدل على ذلك بما جاء في بعض الكتب الفقهية : ”

((لا ينبغي للسيد أن يأذن لعبده في التجارة إذا كان غير مأمون فيما يتولاه، إما لأنه يعمل بالربا، أو خائن في معاملته، (أو) نحو ذلك. فإن تجر فربح وكان يعمل بالربا تصدق السيد بالفضل، وإن كان يجهل ما يدخل عليه من الفساد في بيعه ذلك استحسن له التصدق بالربح من غير إجباره. [عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة (2/ 742].

مولى العتاقة والنسب

من المسائل المعاصرة انتساب الزوجة في الغرب إلى نسب زوجها لا إلى نسب أبيها، وقد حذرت النصوص من انتساب الإنسان إلى نسب غير نسب أبيه. لكننا وجدنا في التطبيقات الفقهية ما يُعرف بمولى العتاقة، وهو العبد إذا أعتقه سيده، يُقال عنه مولى فلان، أو مولى بني فلان، فينسب إلى سيده، فهل يجوز الإفادة من هذا الحكم في انتساب الزوجة إلى زوجها بعد الزواج.


والخلاصة أن فقه الرقيق في التصور الإسلامي خصب وغني بتطبيقاته الفقهية، ويمكن أن يكون إلهاما في تكييف بعض العقود المالية وغيرها، كما يمكن أن يكون أصلا لبعض الفروع والتخريجات الفقهية المعاصرة، كما يعد ضابطا للتخريجات المقبولة والمرفوضة من الناحية الشرعية، دون أن يكون في ذلك دعوة لاستحياء نظام الرق من جديد.


[1] – المغني لابن قدامة (6/ 348)