ثقافة الاستسهال باتت تزاحم حياة الناس، بعدما أصبحت مصدر إلهام للأفعال والسلوكيات، فَيُؤثر الشخص الراحة على التعب، والحصول على كل شيء دون بذل حبات العرق، ويتمنى النجاح بغير مجهود، ويتناسي أن النجاحات الكبرى لا تتحقق إلا بمجهودات كبرى، فعلى قدر الغاية تكون العزيمة، وعلى قدر الحُلم يكون السعي، لكن الاستسهال وطلب الحصول على النجاح دون استيفاء حقه من الأسباب والجهد، يُنتج أجيالا ضعيفة، روحها هزيلة، وعزيمتها ضامرة، وكما يقول الشيخ محمد الغزالي “مَن لم يُسهره العلم أياماً، أسهره الجهل أعواماً” فالاستسهال، ربما يكون خلود لراحة سريعة ومؤقتة، لكن بعده تعب طويل، وضريبة قاسية، يسددها المرء طيلة حياته، وربما امتد تأثيره إلى ما بعد موته، في حساب عسير على التفريط والكسل والتراخي.
يقول الإمام “محمد عبده“: “هؤلاء قوم يحبون أن يقعدوا في صندوق من الجهل، ويقفلوه على أنفسهم من داخله، حتى لا يأتي فاتح يفتحه ويُفرج عنهم” مقولة عظيمة تصف الجمود الفكري، غير أن جوهر الجمود هو الاستسهال وطلب الراحة الفكرية، وإعفاء العقول من مسؤوليتها في التفكير والابداع.
ساهمت الرقمية في انتشار ثقافة الاستسهال، فالرقمية قيدت الناس أمام الشاشات، ظنا منهم أن العالم الافتراضي هو البديل الأفضل، كذلك شيوع التكنولوجيا التي يسرت حياة الناس، لكن ابتكاراتها أنتجت سلوكا إنسانيا كسولا، ورغبة في أن يحرك الشخص كل شيء من خلال “الريموت”، ذلك الابتكار الذي ساهم في ضمور عضلات الإنسان، وإطفاء كثيرا من توهج إرادته وعزيمته.
منابع ثقافة الاستسهال
الاستسهال، ضار بالعزيمة والإرادة الإنسانية، فهو يشجع على الاستسلام السريع، واليأس المبكر، فيبث حججه بأنه لا توجد فرصة للنجاح أو النجاة، وأن علي الإنسان ألا يجتهد في بالبحث عن مخرج لأزمته، أو البحث عن طريق جديدة للوصول لغايته، والقاعدة التي توصل إليها علماء النفس والاجتماع “أن المعتقدات تنظم السلوك الإنساني” أي أن حركتنا السلوكية الخارجية وتفاعلنا الحياتي، يرتكز على الدخل الإنساني، فالصبر والمثابرة، والكسل والتراخي، كلها نتاج النفس .
من أسباب انتشار ثقافة الاستسهال
فقدان فضيلة الصبر والمثابرة:
هذه الفضيلة أصبحت غائبة، فالكثير قد يكون متحمسا في البداية، لكن سرعان ما تفتر عزيمته، ويترك البداية لينتقل لبداية جديدة، في حين أن الإصرار على النجاح وإكمال الطريق، يحاصر جاذبية الاستسهال، ويمد الإنسان بطاقة كبيرة لتحقيق غايته، يقول “طاغور” شاعر الهند:” المستحيل لا يقيم إلا في أحلام العاجز”، لهذا قال القرآن الكريم: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا “[1] فبعض الأمور والصدمات تحتاج إمدادت كبيرة من الصبر، والمصابرة هي مغالبة العدو في الصبر، لذلك توصف الأجيال الحالية بأنها أقل قدرة على التحمل، وتوصف بأنه مثل “رقائق الثلج” أي سريعة الذوبان مع أقل حرارة، في كتابه “الإعلان الإسلامي” ذكر “علي عزت بيجوفيتش” حقيقة مهمة عند مقارنة التقدم في العالم الغربي، وبين التخلف في المجتمعات المسلمة، فلفت الانتباه إلى روح الكدح التي تميز بها الغربيون المقترن بالشعور بالمسئولية، تلك الخلطة التي أوجدت ثقافة إجادة العمل وليس الاستسهال، فيقول:”إنهم لم يستطيعوا أن يفهموا أن العالم الغربي لا يضع في طريقه قوته في الحياة، وإنما في طريقته في العمل، وأن قوته ليست في الموضة والإلحاد وأوكار الليل وتمرد الشباب على التكامل، وإنما يكمن في الكدح الذي لا مثيل له، وفي المثابرة والعلم والشعور بالمسئولية التي تتميز بها شعوبهم” .
الميل إلى الاستسلام:
هذا الشعور، يحفز ثقافة الاستسهال، ويحفز الشخص للبحث عن الراحة أكثر من السعى نحو تحقيق الهدف، تقول الحكمة ” الذين يسعون إلى النضال ينتهي بهم الأمر إلى أن يصبحوا أكثر سعادة من أولئك الذين يسعون إلى المتعة”، فالمجاهدة ذات قيمة تربوية عظيمة، فهي رفض للاستسلام أماما المغريات والشهوات، وبذل الجهد للافلات من تأثيرها وإغوائها، لذلك قال القرآن الكريم ” وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا”[2] فخطورة الخطيئة والسلوكيات السلبية أنها تتغذى على نفسها، أي تعيد إنتاج نفسها مرة أخرى، حتى تصير روحا بليدة، وهذا الشعور يقتل المواهب، فـ ” الموهبة شعلة، ولكن من السهل أن تنطفئ إذا لم يتم تغذيتها بالعمل الجاد والتفاني”.
الاعتقاد بوجود حياة خالية من التحديات:
يظن البعض أنه يمكن أن يلتقط الثمرة من الشجرة بمجرد أن يمد يده، لكن الحقيقة أن الحياة كثيفة في تحدياتها، تلك التحديات التي تصنع الشخصية القوية الناجحة، وغياب التحدي يضعف المناعة، التي يجب أن تتحلى بها الإرادة الإنسانية، وهناك ظن خاطيء بأن كل الأمور يجب أن تكون بلا تحدي، وتلك رؤية سطحية للحياة، يتبعها استسهال في التعامل معها، يقول الكاتب الكندي “تيري فاليس” : “الحياة بلا تحدي، والحياة بلا مشقة، والحياة بلا هدف، تبدو شاحبة ولا معنى لها، فمع التحدي تأتي المثابرة والذكاء، ومع المشقة تأتي المرونة والعزيمة، مع الهدف تأتي القوة والتفاهم”، وإذا لم تظهر التحديات التي تلهمك، فستظهر الاهتمامات التي قد تهدمك، وكما تشير تجارب الحياة فإن ” القلق والمشقة يجبران العقل للبحث عن إمكانيات جديدة، خارج حدود السلوكيات المكتسبة، وهو مسلك يشجع الحلول البديهية والإبداعية”، وكما يقول “عمر بن عبد العزيز” –رضي الله عنه- :” لو أن الناس كلما استصعبوا أمرًا تركوه، ماقام للناس دنيا ولا دين.
الاعتقاد بأن النجاح محطة وصول:
هذا الشعور يعمق ثقافة الاستسهال، في حين أن النجاح مسار، لا ينتهي، وبعض الناس يشعر بفراغ بعض تحقيق هدفه، ويستسلم إلى هذه الحالة النفسية التي تشجع على التراخي والكسل، وهي حالة نفسية يطلق عليها “مغالطة الوصول” the arrival fallacyوفيها يخادع الإنسان نفسه ويدعي أنه حقق النجاح ووصل إلى غايته، ليعيش حالة من الرضا النفسي والسعادة، لكن يعقب هذه المغالطة اكتشاف حقيقة خداعه لنفسه، وعندها قد يكون معرضا للإصابة بالاكتئاب والاحباط السريع.
الافتقار للرؤية:
امتلاك الإنسان للرؤية يحثه على إجادة العمل والاستمرار عليه للوصول للغاية، فإذا غابت الرؤية ضعفت العزيمة، لذلك من يستحضر الإيمان بالله والآخرة، وثواب العمل الصالح، وعاقبة المعصية، فإن ذلك يطرد عنه روح الكسل، واستسهال المعصية، ومما قيل للحسن البصري: كم تُتعب نفسَك! فقال: بل راحتَها أُريد!
الرغبة في الحصول على نتائج سريعة وفورية:
هذه الرغبة، تخلق الاستسهال، فهذا الشخص يريد أن يغرس البذور، ثم يحصد الثمار في اليوم التالي، وهذا ضد منطق الأشياء، وضد سنن الله تعالى في الكون، وما قاله ” كونفوشيوس”: ” الرجل الذي ينقل الجبل يبدأ بحمل الحجارة الصغيرة” ، ربما حركة العصر السريعة، حتى في الطعام وانتشار الوجبات السريعة الضارة، أحد مظهر ثقافة الاستسهال، التي ضربت كل شيء حتى الطعام، والذي بدلا من أن يكون طاقة للإنسان أصبحا عبئا على صحته وحياته، بسبب الرغبة في تناول أي شيء، وملء البطن وسد الجوع فقط، جاءت تلك الوجبات عقب ظهور شعار “الحياة أفضل من خلال الكيمياء” لأن اختزال الإنسان مجموعة من التفاعلات الكيميائية، كان كارثيا، لأن استسهال في فهم حقيقة الإنسان.
أما الرؤية الدينية فترفض الاستسهال، حتى في أوقات السعادة، مثل الأعياد لا تأتي إلا بعد عبادات شاقة، أي بعد جهد طويل، وعناد للنفس والظروف، فعيد الفطر يأتي بعد صيام شهر كامل، لذا انتقد “ابن الجوزي” في كتابه “صيد الخاطر” الذين طلبوا النجاة بلا عمل، فقال:” اتكلوا على خبز الراحة فاستطابوا الكسل والدعة ” محذر من “لص الكسل” ووصفه بأنه “محتال على سرقة الزمان “، فالاستسهال ما هو إلا انتحار بطيء.