استمعت لأحد النقاشات التي تتناول موضوعا تتصاعد حدته في مختلف أرجاء العالم؛ وهو الرغبة في الانتحار عند البعض، ومحاولة تنفيذ هذه الرغبة عند آخرين، ونجاح هذه المحاولات من أول مرة أو تكرارها. قالت إحدى المشاركات في النقاش: ليس للإيمان تأثير في إيقاف فكرة الانتحار؛ فمعروف عن الشرق التدين بمختلف صوره وأشكاله ومع ذلك نسبة الانتحار مرتفعة، و النصيحة التي تلقيتها عندما أصارح الآخرين بمشاكلي هي: صل ركعتين واقرأي القرآن، لكن ذلك ليس حلا لمشاكلي المعقدة .
هذا الكلام الخطير الذي يحتوي على عدة مغالطات ويكشف عن صورة ذهنية للدين والقرآن والصلاة لا تستند إلى معرفة صحيحة، من خلال تلاوة القرآن حق تلاوته ، وأداء الصلاة بشكل صحيح، وفهم لما يمكن أن تحدثه العقائد الدينية من تحولات كبيرة في مسار الحياة الشخصية والعامة، وكيف يمكن أن تمثل داعما وموجها للفكر الإنساني في مواجهة المصاعب الكبرى التي يلاقيها.
ونحب أن نتباحث حول فكرة تدين الشرق وما يمكن أن تحدثه الصلاة وتلاوة القرآن في مواجهة المصاعب التي تمتلأ بها الحياة، ومن ثم يتوقف التفكير في الانتحار ويتحول إلى بحث عن أسباب هذه المشكلة، وكيف يمكننا الخروج منها الآن وتجنب الوقوع فيها مستقبلا.
هل الالتزام بالدين يحصننا ضد الانتحار؟
يخلط البعض بين اعتناق الانسان لدين أو فكرة نتيجة للوراثة أو للبيئة، وظهور هذه الصلة من خلال مظاهر أو طقوس وشعائر يقوم بها، وبين ظهور آثار هذا التدين على العقل والقلب والسلوك ،بحيث تجد فارقا بين شخصين أحدهما متدين والآخر غير متدين أو يتدين بدين مختلف، وقد قال أحدهم: إنه كان له صديق دامت العلاقة بينهما مدة عشرين عاما ، وكان لكل منهما دينه ولم يلحظ ذلك كل من عرفهما، تساءلت خلال الأعوام العشرين جاء رمضان وذهب لم يلحظ أحد كونك صائما أو تتناول الطعام خلال نهار رمضان وتدخن ،وقد عرف عنك التدخين ،كل يوم تلتقيان ويحين وقت الصلاة لم يلحظ أحد أنك تلبي نداء الحق، يأتي وقت الجمعة وهو يوم إجازة يلتقي فيه الناس لم تترك صاحبك مرة خلال العشرين عاما لكي تستمع للخطبة وتؤدي الصلاة، إن مفهوم التدين على أنه علاقة روحية خالصة بين الإنسان وبين خالقه دون أن يكون لهذه العلاقة ما يغذيها من أداء الصلوات واجتاب المحارم، والرغبة في التقرب من الله تعالى واتخاذ المواقف الحياتية من الأحداث والناس دون أن تستند على أساس شرعي وأخلاقي، والرغبة في الإحسان إلى الناس والنباتات والحيوانات لأن ذلك مما يجلب رضا الله سبحانه وتعالى، أمر يتنافى مع طبيعة العلاقة بين التدين والمتدين؛ ذلك أن هذه العلاقة لا تتحدد بناء على ما نتصوره بل بناء على ما جاء في الكتب الإلهية التي حملها الأنبياء وطبقوها لكي نرى النماذج العملية التي يريد الله تعالى منا أن نقتدي بها.
فتصور أن ما نراه من صور التدين في الشرق هي الصورة الصحيحة للتدين أو القريبة من الصحيحة يحتاج منا إلى إعادة النظر مرات ومرات، لكي نضبط الأمور بالضوابط الشرعية ويكون حكمنا حكما صحيحا، هل هذا النوع من التدين كفيل بحماية الإنسان من التفكير في الانتحار، أم أنه يكون شخصية هشة تتحطم عند أول تصادم مع موقف عادي جدا من مواقف الحياة؟؟
هل أداء الصلاة يمكن أن يقي من الانتحار؟
هذه الصلاة أحد الروابط التي تصل الأرض بالسماء والقلب بالله تعالى، وكلما أديناها بطريقة صحيحة كلما استطعنا أن نكون أقرب إلى الله تعالى، وقد قيل:” الخشوع روح الصلاة” هذا الخشوع يعني فيما يعني:
اعتبار الصلاة مناجاة لله تعالى وحديثا بين المخلوق والخالق يفضي الإنسان – الذي أحاط به الكرب وكاد أن يختنق بهمومه- لله تعالى يحكي هذه الهموم وهو على يقين جازم بأن الله تعالى يسمعه ويعلم ما يؤذيه، وقد وجد الناس بالتجربة الشخصية والعلم أن مجرد حكاية الهموم يخفف عن النفس كثيرا حتى لو لم يكن للشخص الذي تحكي له القدرة على تقديم المساعدة أو حتى تقديم النصيحة المناسبة، لكن الأمر كما يقال :”فضفضة”، فما بالنا إذا كنا نشكو حالنا لله تعالى وهو السميع العليم الحكيم القادر على كل شيء.
ويعني الخشوع أيضا: شدة التركيز في كلامنا الذي نناجي به ربنا سواء كان تلاوة لكتابه الكريم أو ذكرا أو دعاء عبر الركوع والسجود .ومن يعانون من الآلام نفسية عميقة يشتكون من التشوش وعدم القدرة على التركيز، وحالة الاضطرار التي يطرق الإنسان فيها أبوابا كثيرة فيجدها مغلقة، تجعله يقف بين يدي ربه بكل مشاعره وقواه منتظرا للفرج مستسلما للقدر الإلهي موقنا بقوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]
كانت الصلاة بالنسبة للنبي ﷺ مصدرا للراحة وسببا للسكينة، فكان يقول: «يَا بِلَالُ أَقِمِ الصَّلَاةَ أَرِحْنَا بِهَا»[1] وهذا النص النبوي الكريم تعليم لنا ولكل من افتقد الراحة والطمأنينة أن نبحث عنها داخل الصلاة.
لكننا نجد المصلين يشعرون أيضا بالضيق وربما فكر أحدهم في الانتحار، نحن نراهم يصلون ولكن المشاعر السلبية تحيط بهم حتى تكاد أن تخنقهم، لعلي أتفق مع أصحاب هذا القول بصورة جزئية، إن للصلاة روحا وبدنا فهل كل من يصلي ويركع ويسجد حصل على التغذية الروحية التي ينبغي أن نستمدها من الصلاة؟؟ في عصر النبي ﷺ دخل رجل يصلي قام وتلا ما تيسر له وركع وسجد أدى صورة الصلاة لكن أين حقيقتها؟ غابت لذلك قال له النبي ﷺ :«ارْجِعْ فَصَلِّ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ» ثلاثا[2] ،بعض الناس يدخل إلى الصلاة ثم يفاجئ بأن الإمام قد أتم الصلاة بقوله: السلام عليكم ورحمة الله، لم يكن الرجل حاضرا بقلبه والإمام ينتقل بين القيام والقراءة والركوع والسجود، كانت روحه وعقله هائمة في بحر الحياة يفكر في متطلباتها التي لا تنتهي، ويفكر كيف يحصل عليها؟ وكيف يحتمي من خصومه؟، وكيف ينتصر عليهم؟، تمضي صلاته على هذه الشاكلة ثم يصاب بالأزمات النفسية وتعلوا الأصوات: لقد كان يصلي وأصابه ما أصاب الذين لا يصلون، إننا نظلم الحقيقة ونظلم أنفسنا حين نقول: إن هذا النوع من الناس قد سعى لتحصيل ثمرات الصلاة؛ من تحقيق السكينة الروحية والقدرة على استجماع الطاقات الفكرية والروحية، والتزود من الصلاة لمواجهة أعباء الحياة والتغلب عليها.
إنه يصلي لأنه يعلم أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، وأن لها ثمار يتناولها القلب فتبدوا على الوجه والفكر والجسد، ولكنه لم يسأل يوما ،كيف أزرع هذه الثمار وكيف أحصدها؟ ومع ذلك يجب التنويه إلى أن صلاة الجماعة لها فضلها – ليس في الدرجات السبع والعشرين التي تتفوق بها على صلاة الفرد فحسب – لكن في الشعور بروح الوحدة بين المسلمين، والرحمات التي ينزلها الله تعالى على هذه البقاع من الأرض، والخشوع الذي يمكن أن يسري من قلب لقلب ومن روح لروح، ويجب التنويه كذلك إلى أن آثار الصلاة المتعددة تنال بالمعرفة والدعاء لله تعالى والصبر والمجاهدة والإصرار.
هل يعطينا القرآن الكريم حلولا أخرى غير الانتحار؟
البعض ينظر إلى القرآن على أنه كلام مقدس فحسب ويتلوه اجتلابا للبركة والثواب، وربما كان هذا هو الداعي لمن يتساءلون عن ما يمكن أن يقدمه القرآن لوقف ظاهره الانتحار، لو قرأنا القرآن على أنه رسالة الله تعالى إلى الخلق لكي يقرؤوه ويفهموه ويعملوا بما فيه لتغيرت نظرتنا إلى هذا الكتاب العزيز .
لو تأملنا في قوله تعالى {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه: 2] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] هذه الجمل القرآنية الكريمة تحدد مسارنا ونحن نتعامل مع القرآن الكريم في قضية الانتحار مثلا
فالذين يفكرون في هذا الأمر – الذي ينافي طبيعة الانسان وحبه للحياة – يغيب عنهم عدة حقائق يمكن أن تغير من نظرتهم للأمور، منها:
- هذه الحياة فيها تعب ومشقة ليست نزهة ،مهما كان مكانك فيها ستواجه المشاكل، وهذه المعاني وغيرها يمكن أن نفهها من قوله تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ } [البلد: 4].
- هذه الحياة فترة اختبار كبير سواء بما تحب أو تكره {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
- إذا أصابك ما تكره فعد إلى إيمانك بالله تعالى وحكمته ورحمته، فقد يكون فيما تكره نجاة لك من كثير من البلاء الذي لم تتوقعه ولم تحسب حسابه،{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 216].
- توكلك على الله لا يعني أن تنعزل عن الحياة وتتوقف عن تحقيق أهدافك المشروعة مهما كانت قوتك وحالتك، فمريم عليها السلام وهي تعاني من المخاض يقول الله تعالى لها :{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم: 25].
نستمد طاقتنا الروحية والعقلية من تعزيز علاقتنا بالدين بشكل صحيح حتى نستطيع أن نعيش في هذه الحياة مستمتعين بطيباتها التي أحلها الله،معمرين في الأرض بما يرضي الله سبحانه، منتظرين لغد أفضل في الدنيا ثقة بما عند الله من خير راجين أن نكون من أهل جنات النعيم.
إن الناس يلجأون إلى الانتحار عندما تحيط بهم المشاكل من كل جانب ويعجزون عن حلها أو مجرد التفكير في الخروج الآمن، وعندما يشعرون بالوحدة، وينجو من هذه المشارع القاتلة، من عرف ربه فذكره وذكر ما عنده من خير وكيف نجاه الله من كثير من البلاء، نقف أمام بعض المشاكل شاعرين بالعجز، لكن تدبرنا لكتاب الله تعالى ووقوفنا بين يديه سبحانه في الصلاة، يعلمنا كيف ننظر إليها ونغالبها حتى نغلبها كما غلبها الصالحون من قبلنا.