نحن لا نختلف في أن هذه الدنيا دار ابتلاء بالقوة والضعف والخير والشر، لكن الذي نختلف فيه عادة هو الجواب على السؤال التالي : هل احتمالات نجاحنا في ابتلاء الخير والقوة أكبر أو في ابتلاء الشر والضعف ؟ وما الذي تؤكده الخبرة البشرية في هذا الشأن ؟ .
لو عدنا إلى النصوص والأقوال المأثورة ، فإننا سنجد منها ما يؤكد على إيجابيات امتلاك القوة ، ومنها ما يشير إلى إيجابيات الضعف والقِلَّة ، ومنها ما يفصِّل ، ويشرط على ما نجده في قوله ـ ﷺ ـ : ( نعم المال الصالح للرجل الصالح ) .
وهذه مقاربة سريعة في هذه المسألة :
1- لو نظرنا في الأدبيات الموروثة عن أسلافنا ، فإننا سنجد أن تمجيد الضعف والفقر والانكفاء على الذات هو الذي كان طاغياً ، وقد كان من المشهور لدى الصوفية ـ مثلاً ـ أن الذكر والعزلة والصمت والجوع أمور أساسية في حياة الصفوة من المتقين ، كما أن الذي كان سائداً في التربية هو التحفيز على السكون والسلبية وقمع النفس، وليس الحض على النمو والفاعلية ، وقد نتج عن هذا ميل معظم الناس إلى التشابه ولزوم الحد الأوسط ، ولهذا فإننا في معظم مراحل التاريخ لم نكن نفعل الأسوأ، كما أننا لم نكن نفعل الأفضل .
2- نحن اليوم في عصر العولمة ، والعولمة وضعية كونية تتيح للأقوياء والأغنياء والأفضل تعلماً والأشد فاعلية أن يستثمروا في الفقراء والأميين والكسالى وكل أصحاب الظروف الصعبة والكفاءات المنخفضة، وهذا يعني أن الضعف يؤهِّل أصحابه ليكونوا مَواطن نفوذ لأصحاب القوة . والحقيقة أن ( الضعف ) كان على مدار التاريخ يُغري الأقوياء باستغلال المبتلين به ، لكن الوضع اليوم أشد بؤساً ، فالمرء حين يكون فقيراً بين فقراء ، وجاهلاً بين جهلة وفوضوياً بين فوضويين ، فإنه يواجه نصف مشكلة ، لكنه سينتظر مشكلة كبرى حين يكون فقيراً بين أغنياء أو جاهلاً بين علماء ، أو فوضوياً بين منظمين ، إنهم حينئذاك سيحلون كل مشكلاتهم على حسابه ، وليس في هذا غرابة ما دمنا قد سلمنا بأننا نعيش في عالم تنازع البقاء ،
3- قالت العرب قديماً : (( المحاصَر لا يأتي بخير )) وهذا المثل يمسّ الضعيف ، على نحو مباشر لأن الضعف يضع حول صاحبه من الموانع والحواجز ، ما يشبه الأسوار العالية التي تحيط بمدينة من المدن، ولهذا فإن الضعيف يشعر بأنه مكبَّل ومعزول ومرتبك بسبب عدم قدرته على مواكبة عصره والتعامل مع تحدياته المتوالية . شعور الضعيف بانسداد الآفاق يؤثِّر في حياته وسعادته وإنجازه أكثر من تأثير الحصار على أناس داخل مدينة أو قرية لأن الحصار الروحي والشعوري يُلحق الضرر بالبنية العقلية والنفسية العميقة للإنسان ، وحين تصاب البنية يهتز كل شيء .
4- مشكلة الضعيف أنه كثيراً ما يجد نفسه عاجزاً عن حل مشكلاته الخاصة ، وهذا يحوِّله إلى إنسان كلٍّ على مجتمعه حيث إن من سنن الله ـ تعالى ـ في الخلق أن الإنسان حين يعجز عن تدبير شأنه الخاص ، يتحول هو نفسه ـ إلى مشكل اجتماعي ، وهذا ما نلمسه في حياة الكثيرين .
5- إن من الملاحظ أن الإنسان لا يفكر ـ غالباً ـ في العطاء ومساعدة الآخرين إلا إذا كان في حالة حسنة من القوة والاستغناء ،و من سنن الله في الخلق أن الضعيف والفقير ومن يملك ذكاءً أقل من المتوسط …. يظل ينتظر المعونة من الآخرين ، وهذه مسألة مهمة؛ حيث إن معظم المجتمعات الإسلامية ضعيفة ، ولهذا فإن الذين ينتظرون من أبنائها المساعدة كثيرون على حين أن الذين يستطيعون تقديمها قليلون،وهذا أحد أسرار ضعف الأعمال الخيرية لدينا .
6- من المهم أن ندرك أن السبب الرئيس لضعف الأفراد والأمم هو سبب ذاتي ، يتمحور حول المعطيات التي تشكل حياتنا الخاصة والعامة ، وتظل مساهمة الآخرين في تقدمنا وتخلفنا على كل المستويات ، مساهمة هامشية ومحدودة ، وهذا ما نفهمه من قول الله ـ تعالى ـ : (( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً )) وقوله : (( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم …)) .
السبب الأساسي في ضعف الأفراد لا يعود إلى تواضع المواهب والقدرات ، وإنما يعود إلى ضعف الإرادات واضطراب الرؤية للذات والمحيط، أما الأمم والشعوب والمؤسسات والهيئات .. فإن مشكلاتها الأساسية لا تكمن في شح الموارد والإمكانات ، وإنما في سوء إدارتها والفساد الذي ينخر في عظامها.
بالإرادة الصلبة والرؤية الواضحة ، وبالنزاهة ، وبالشفافية والإبداع في إدارة ما هو متوفر من معطيات يتحول الضعفاء إلى أقوياء ، وينتقل الناس من حال إلى حال.
ولله الأمر من قبل ومن بعد .