جائزة الدوحة للكتاب العربي موضوع يقودنا إلى مطلع يناير 2024 تفاجأ عشرة أعلام من الذين أفنوا أعمارهم في خدمة العلوم بمختلف فنونها، باتصال هاتفي من رقم قطري يحمل لهم بشرى مفادها؛ أن في الكرة الأرضية من يهتم بتكريم العلماء المؤلفين باللغة العربية، وأن في عواصم العرب من يُقدر جهود المتبتِّلين في محاريب العلم، والمنقطعين للتصنيف والتأليف، بناءً للمعارف أو إنشاء للأفكار أو تحقيقا للتراث الإسلامي.
ينتمي العشرة المكرمون في الدورة التأسيسية لجائزة الدوحة للكتاب العربي إلى جغرافيا العالم الإسلامي من بغداد شرقا إلى الرباط وكوناكري غربا، وكانوا من تخصصات شتى في الفلسفة والبلاغة والنقد والتاريخ بفروعه، وأصول الفقه وتحقيق التراث، وكانت تجاربهم ممتعة مفيدة باختلاف الأعمار والتخصصات، وتجارب التلقي العلمي والتكوين المعرفي والإنتاج التأليفي.
جائزة الدوحة للكتاب وعي وإدراك حضاري
وكان من وعي منظمي جائزة الدوحة للكتاب العربي إحياء العلم بتكريم أهله وإدراكهم الحضاري العميق لأهمية تدوين التجارب العلمية ومعاناة أرباب الفكر والقلم أنهم حرصوا على توثيق تجارب هؤلاء “العشرة المبشرين بالتكريم”؛ لتكون زادا معرفيا للأجيال، وتأسيسا هاديا للجائزة، وهي تخطو بخطى واثقة نحو نهضة عربية إسلامية في التأليف الجاد، يعيد للأمة مجدها العلمي الأصيل وعطاءها المعرفي التليد، بمبادرة معرفية من أمير عربي أقل أفضاله على العرب تحرير سمعهم وأبصارهم بشبكة الجزيرة.
في الكتاب الذي أصدرته الجائزة تحت عنوان “حياة للعلم مسارات وشهادات” يحدثك محمد محمد أبو موسى من مصر أم الدنيا وكنانتها الأزهر كيف قاده تفوقه في البلاغة خلال سنوات الجامعة الأربع إلى التخصص في هذا العلم المعياري، حتى صار جليس الزمخشري ورفيق عبد القاهر الجرجاني.
وكيف تعمق في البلاغة والثقافة لحبه الأبدي للكتاب حتى قال لنفسه ذات يوم لو علمت أن لإبليس كتابا لوصلت إليه، ثم قضى مسيرة علمه مقربا لفن البلاغة محللا لعلم البيان، منقطعا عن كل شاغل إداري أو غيره، متفرغا لإعداد الأجيال الذي يراه من أوجب الواجبات، وقد جعله هذا التكريم المستحق يشعر أنه قدم لأمته شيئا.
فيما يحدثك ناصر الدين سعيدوني من جزائر الثورة عن مسيرته الصعبة التي بدأت في التعليم الموازي الذي أحدثته جمعية علماء المسلمين الجزائريين مراغمة لنظام التعليم الفرنسي، متنقلا بين قرى الجزائر ومدنها حتى وصل إلى العاصمة الجزائرية وثورتها المجيدة في أعقابها، وتباشير الاستقلال تلوح في الأفق.
فكانت تلك اللحظة التاريخية موجهة له نحو التاريخ حتى ناقش فيه رسالتين الأولى في بلده 1974، والثانية في فرنسا 1988، مواصلا عطائه المعرفي في حقل التاريخ لا سيما العثماني والأندلسي، منتقلا بين دول ومناطق مختلفة، راصدا العراقيل والعوائق “التي تعترض تطوير مجال الكتاب العربي في عطائه المعرفي”، مؤملا أن تتغلب جائزة الدوحة للكتاب العربي على كلها.
ومن المغرب يبدأ فيلسوفها طه عبدالرحمن في عرض تجربته الفلسفية الثرية بـ”شكر دولة قطر الحكيمة على اختياراتها وقراراتها إذ أنشأت جائزة الدوحة للكتاب العربي إنشاءها لكثير من عظيم المآثر، وهي تقصد أن تحفظ كريم القيم في الأمة، وأن ترفع مكانتها بين الأمم”، وهي مقدمة استهل بها الفيلسوف لأنه يرى أن من فاته شكر الناس على ما أسلفوا من أفضال، فقد فاته شكر الله على نعمه، والفيلسوف المتبتل يأبى أن يفوته الأمران.
يتحرج الفيلسوف طه عبد الرحمن من التحدث عن سيرته الذاتية خشية الوقوع في تزكية النفس، لكن إلحاح المنظمين دعاه لذلك فأخبرنا أن “الفيلسوف ابن ساعته” لأن مسيرته الفلسفية ملكتها عليه “أحداث الساعة الفاصلة في حياة الأمة”، فكانت “الثغور” محددة لمسيرته فبدأ من “ثغر العقل” بعد الهزة العظيمة التي أحدثتها هزيمة 1967 في كيانه، ولم يذهب عنه أثر تلك الهزيمة حتى رابط من جديد على ما يسميه “ثغر الشر المطلق”.
عقب هزيمة 67 تساءل فيلسوف الأخلاق عن “أي عقل هذا الذي هزم العرب جميعا؟!؟ فأخذ على نفسه أن يجتهد “في بناء عقل عربي مبدع غير منسلب، ومتحرر غير متسيب”، وأخذ ذلك البناء من عمره زمنا غير قصير، وجاء بناؤه في صورتين؛ إحداهما: صورة منطقية، والثانية: صورة فلسفية، ثم كان الثغر الثاني ثغر التراث، والثالث ثغر الحداثة، والرابع ثغر الأخلاق، وكان طه صاحب بناء في كل هذه الثغور مرابطا على الأخلاق، متصديا للدهرانية ببسالة وعدة عقلية ذات “جرافات وغواصات”.
أما جيرار جهامي فقد بدأ مسيرته الفكرية يوم وضع أستاذه ومرشده بين يديه مخطوطة تلخيص منطق أرسطو لابن رشد ليبدأ تحقيقها خلال ست سنوات، متجولا بين ضفاف الفكر العربي واليوناني والغربي، قبل أن يحط رحاله في رحاب الموسوعات ليكتب معجم مصطلحات الفكر العربي والإسلامي مع شريكة حياته الدكتورة عايدة، مع اثنتي عشرة موسوعة أخرى.
وهكذا تستمر مسيرة جائزة الدوحة للكتاب العربي في عرض التجارب الثرية لأيمن فؤاد سيد ابن العالم المحقق المصري المعروف سادن التراث ومحققه، ومصطفى عقيل الخطيب من قطر الذي وفقه الله لإنتاج العديد من الدراسات التاريخية والفكرية حول الخليج العربي وإيران، ومن العراق يعرض غانم قدوري الحمد رحلته الممتعة مع المصحف والمخطوطات، وهي الرحلة التي أسفرت عن تأليف 36 كتابا، وتحقيق 40 نصا، وكتابة 86 بحثا.
ومن فلسطين الملاحم تقدم فيحاء عبد الهادي مسيرتها العلمية والثقافية المرتبطة بشكل عضوي بوطنها المحتل، حيث تفتحت عيناها في نابلس بشغف على “جرس الكلمة الحرة، على الشعر والأدب والفكر المرتبط بالمقاومة والحرية والكرامة الإنسانية في بيت أدب وعلم وثقافة وسياسة”، وهو الشغف الذي حداها إلى توثيق التاريخ الشفوي بالتركيز على قضايا المرأة الفلسطينية لا سيما المهمشات والمنسيات والرائدات، مسلطة الضوء على أدوارهن التاريخية.
جائزة الدوحة للكتاب .. نهضة في عالم التأليف
وكان ختام المسارات والشهادات في جائزة الدوحة للكتاب العربي مسكا مع سعد البازعي من السعودية، وقطب سانو من جمهورية غينيا، فالأول؛ اتسعت دروبه في دراسة الاستشراق والاهتمام بالخطاب في مسارات متعددة، بينما قطب مصطفى سانو كانت مسيرته الملحمية دليلا على عظمة هذا الدين وتجذر تقدير العباقرة في حضارتنا، فذلك “الطفل الهادئ” الذي ولد لأسرة غنية في مدينة كانكا الآمنة على ضفاف نهر ميلو العظيم الذي ينبع منه نهر النيجر لم تزل تعلو به همته حتى صار أحد أساطين مجمع الفقه الإسلامي الدولي وأمينه العام بجدارة، ثم وزيرا لعدة حقائب في بلاده.
تنقل سانو بين شيوخ بلاده الكثيرين ومجالس التدريس في الحرم المكي، وفي جامعة أم القرى واشتهر بلقب “حصَّاد الجوائز” لدوام تفوقه، ثم انتقل إلى أرخبيل الملايو مدرسا وطالبا ليتوج مساره الأكاديمي بشهادتي دكتوراه إحداهما من كلية معارف الوحي والعلوم الإنسانية في الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، والثانية من جامعة الزيتونة، وألف بعد ذلك 24 كتابا ونشر ما يزيد على 85 بحثا، وأشرف على 46 طالبا في الدراسات العليا، وشارك في مئات المؤتمرات، وهو في كل ذلك مهموم بالاجتهاد والتجديد.
تلك ومضات من شهادات ومسارات “العشرة المبشرين بالتكريم” في جائزة الدوحة للكتاب العربي، وهي الجائزة التي جعلت أنظار المؤلفين العرب تتجه إلى الدوحة بامتنان، موقنين أن جائزة الدوحة للكتاب العربي ستحدث نهضة في عالم التأليف الأصيل، يقلل من غزو الكتاب المترجم للمكتبات العربية، وأنها ستعيد للنشر العربي شيئا من ألقه في ظل التسارع إلى الرقمنة وكساد الورق وجفاف الحبر.