تتجلى حقيقة جمال الباطن وجمال الظاهر في أن الله تعالى أودع في نفس الإنسان حب الجمال والرغبة في التجمل، وأحيا الإسلام في نفوس المسلمين حب الجمال ووجههم إلى صراط الله المستقيم فيه حين أخبرهم نبيهم – – أن الله تعالى «‌جَمِيلٌ ‌يُحِبُّ ‌الْجَمَالَ»[1]، وحين نظروا في السماء فوجدوها كما قال تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ [الصافات: 6]، وحين مشوا على الأرض فوجدوها عامرة بالزروع والثمار من مختلف الأشكال والألوان والطعوم والروائح ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: 7].

ومع ما في النبات من منافع غذائية ودوائية ففيه منافع نفسية؛ إذ رؤيته تبهج العين وتسر القلب وتعدل من المزاج السيئ، وإذا تأملوا فيما يمشي حولهم من بهيمة الأنعام وجدوا قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ [النحل: 6].

أما الإنسان الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه تفضيلًا فربنا يقول عنه: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ [غافر: 64].

حق الجمال على الناظرين إليه

هذا الجمال الذي يراه الإنسان في نفسه وفي الكون من حوله؛ يرقق المشاعر ويغرس حب الجمال ويوجب مجموعة من الحقوق:

  1. أولها: الإقرار بعظمة الله تعالى الذي تفضل بالجمال على الخلق ﴿رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191].
  2. وثانيها: تجميل ما يخرج من الإنسان من تصرف أو كلام أو منتج من المنتجات لكي يتوافق الإنسان مع الكون من حوله.
  3. وثالثها: التفكر العميق، فإذا كانت الدنيا قد خلقت للزوال ومع ذلك تجد الجمال في كل زاوية من زوايا الكون، فكيف تكون الجنة التي خلقت للخلود؟ كيف جملها الله تعالى بالنعيم الأبدي الذي لا يمل منه الإنسان ولا يتعب ولا ينتهي؟

نصيبنا من الجمال قسمة إلهية

وإذا كان الله تعالى قد فضل بعضنا على بعض في الرزق، فإن الجمال من الرزق الذي قسمه الله عز وجل بين الخلق، فتجد بعض الخلق أجمل من بعض وهذه سنة الله تعالى.

ومن الناس من يسعى للتجمل بما أحل الله من زينة ويرى أن التجمل طبع بشري يقف به عند حدود الشرع، ومنهم من يصاب بالهوس فيتعب نفسه وينفق ماله ولا يرضى عن حاله أبدًا، وقد سمعت من أحد أطباء التجميل أنه يجري اختبارًا نفسيًا لمن يطلب منه إجراء عملية تجميل؛ فإذا رأى أنه مصاب بهذا الهوس يمتنع عن إجراء هذه العملية؛ لأنه ما إن يرى صورة تعجبه إلا وأحب أن تكون صورته، بصرف النظر عن مناسبة هذه الصورة لملامح وجهه وتراكيب جسده أم لا.

التوازن بين جمال الخَلْق وجمال الخُلُق

بعض الناس يختار جمال الظاهر ولا يبحث عن جمال الباطن، وهذا الاختيار يناسب شخصيته وقيمه، ثم يجني ما صنعت يداه حين يختار زوجة على أساس جمالها فقط أو يكون مؤهلها الأهم -الذي يمحو كل عيب- هو الجمال.

والإسلام ليس ضد جمال الجسد فلا يحب الإنسان أن يكون قسيم روحه وساكن قلبه دميمًا، وإنما تبعات جمال الظاهر إذا لم يصاحبها جمال الأخلاق: عدم العفة، والكبر على الزوج، وعدم الرضا عن الحياة معه، وترى الزوجة دومًا أنها تستحق زوجًا أفضل وحياة أسعد، وما يترتب على ذلك من تنغيص الحياة الزوجية. جمال الخُلُق يمحو الكثير من العيوب أو يخفف من وطأتها، ويعمل على استمرار العِشرة.

جمال الكلام: قولًا واستماعًا واتباعًا

كان من دعاء النبي : «اللَّهُمَّ ‌كَمَا ‌حَسَّنْتَ ‌خَلْقِي ‌فَحَسِّنْ خُلُقِي»[2]. إذا امتلأ الباطن بالجمال خرجت الكلمات جميلة من الفم وانتقى العقل مما يسمع أطايب الكلام.

وقد أمر الله تعالى المؤمنين عبر التاريخ أن يلتزموا أدب الكلمة ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83]؛ كلمة طيبة تجبر الخاطر وتداوي الجراح النفسية العميقة وتجمع المتفرق وتحفز الكسلان وتصبر المتألم وتفتح أبواب حسن الظن بالله تعالى. واللسان يغرف من القلب؛ فإذا كان في القلب كلام سيئ كثير فإن اللسان يغرف منه.

والمسلم الذي يسعى للجمال في أحواله وأعماله وكلامه يملأ قلبه بالخير حتى يخرج منه كلامًا طيبًا ويجتنب الكلام البذيء ويطهر قاموسه اللفظي من هذه الكلمات استجلابًا لمحبة الله تعالى وفرارًا من غضبه سبحانه، قال : «إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، أَوْ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ وَالْمُتَفَحِّشَ»[3].

الترفع عن قبيح القول

بعض الناس تستخدم لغة خشنة يظن أحدهم أن ذلك يوفر له المهابة في قلوب الناس ويبعدهم عن اكتشاف ضعفه وعيوبه، وبعضهم يفعل ذلك حتى لا يطلب أحدٌ منه المساعدة، وهذا من القبح الذي ينبغي على المسلم أن يتنزه عنه.

إذا امتلأ الباطن بالجمال امتلك الإنسان مصفاة ينتقي بها ما يدخل إلى عقله وقلبه، وقد وصف الله تعالى أولي الألباب بقوله: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18]. ما أحوجنا إلى الاتصاف بهذه الصفة الكريمة حين نتجول في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي أو في المجالس العامة حيث أقل ما يوصف به حديث كثير من المواقع والمجالس أنه لغو.

أولو الألباب يختارون -بما آتاهم الله من بصيرة- أحسن الأقوال بعد تفكير وميزان وحساب، حتى لو كان أحسن الأقوال مكلفًا إلا أن كلفته دائمًا أقل من كلفة الكلام الفارغ الذي يجعل حياتنا خالية من القيم المقربة من الله والبانية للحضارة.

الجمال في الصبر والصفح والهجر

كلما تمكن الإنسان من ضبط نفسه وإدارة انفعالاته كلما تحلى بالجمال؛ فكان صبره جميلًا وصفحه جميلًا وهجره جميلًا.

  • الصبر الجميل: والصبر مر لأنه منع النفس من إخراج انفعالات الغضب، لكن النفس التي امتلأت بالجمال تتحمل هذه المرارة. وإمامنا في الصبر يعقوب عليه السلام لما أبلغه أبناؤه بأن يوسف قد أكله الذئب، قال لهم: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: 83]. الصبر الجميل صبر لا شكوى معه ولا يكون ذلك إلا من تمام الإيمان بأن قضاء الله تعالى للعبد خير. ما أصعب الخبر وما أجمل المسلم حين يسير على درب الأنبياء فيواجه الخوف والجوع وفقد الأموال والأحباب بالصبر الجميل، “‌مَنْ ‌يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ”[4]. من يخطو خطوات في طريق الصبر يعينه الله تعالى على اجتيازه وينزل عليه السكينة. الصبر الجميل صبر لا شكوى معه ولا يكون ذلك إلا من تمام الإيمان بأن قضاء الله تعالى للعبد خير، عند ذلك ينزل الله تعالى عليه الرضا ويتحمل ألم ما أصابه.
  • الصفح الجميل: إذا امتلأ القلب بالجمال صفح الصفح الجميل، والصفح مر لأن رغبة النفس في الانتقام ممن آذاها قائمة دافعة لكل قبيح، لكن من يعلم أن الله تعالى يعفو عن أهل الصفح يستطيع أن يتغلب على نفسه، والصفح الجميل هو الذي يكون مع المقدرة ويكون بلا عتاب.
  • الهجر الجميل: والقلب الذي امتلأ بالجمال هو الذي يهجر هجرًا لا أذى معه، استبقاءً لآخر حبال المودة لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

الجمال في الأصوات (مزامير داود)

وكما يكون الجمال في الأشكال والأفعال يكون في الأصوات، وفي مدح الأصوات الحسنة جاء قول النبي لأبي موسى الأشعري: لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود؛ «عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ : “لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْمَعُ قِرَاءَتَكَ الْبَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ”، فَقَالَ: لَوْ عَلِمْتُ ‌لَحَبَّرْتُهُ ‌لَكَ ‌تَحْبِيرًا»[5].

عند أبي موسى من جمال الصوت فوق ما سمع النبي -- ولم يكن ما عند أبي موسى -رضي الله عنه- قدرة على التحكم بصوته فقط، بل كان يملك شعورًا عاليًا وإحساسًا راقيًا بما في الآيات من توجيهات ورسائل للقلب والعقل.

عند أبي موسى من جمال الصوت فوق ما سمع النبي -- ولم يكن ما عند أبي موسى -رضي الله عنه- قدرة على التحكم بصوته فقط، بل كان يملك شعورًا عاليًا وإحساسًا راقيًا بما في الآيات من توجيهات ورسائل للقلب والعقل.

قال ابن بطال: “التزيين للقرآن إنما هو تحسين الصوت به ليعظم موقعه من القلوب، وتستميل مواعظه النفوس، ولا ينكر أن يكون القرآن يزين صوت من أدمن قراءته، وآثره على حديث الناس”[6].

«ومحمل الأحاديث التي جاءت في حسن الصوت إنما هو على طريق الحزن والتخويف والتشويق»[7]. ولذلك «كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكرنا ربنا يا أبا موسى»[8]، هذه القراءة المليئة بحب الله تعالى والشوق إلى لقائه ومعايشة الآيات توصل القارئ والمستمع إلى أن يذكر ربه ويشكره ويستغفره وينتفع بما في القرآن من هداية. وقد قيل للنبيِّ : أيُّ النَّاس ‌أحسنُ ‌صوتًا ‌بالقرآن؟ قال: “مَنْ إذا قَرَأَ رأيتَ أنَّه يَخْشَى اللَّه عز وجل”[9].

أهمية التربية على الجمال

إن الشعور بالجمال فطرة إنسانية لكن البيئات تزكي هذا الشعور أو تخنقه. وعلى الأسرة ومؤسسات التعليم والمجتمعات:

  1. أن تقوم برسالتها في تنمية الشعور بالجمال من خلال الحرص على أن يؤدي العمل بطريقة جميلة لا أن ينجز فقط بأي شكل من الأشكال، وإذا رأينا حرص من يقدمون الخدمة في المؤسسات التجارية على التجمل لكي يسوّقوا لخدماتهم وسلعهم، وجب على صاحب الفطرة السليمة أن يكون أحرص على أن يكسو كلماته وتصرفاته بالجمال في اللفظ والمعنى والسلوك؛ بدءًا من توقير الكبير واحترام الصغير ومشاعره وأفكاره، ومعاملة الضعيف وصاحب الحاجة بأرقى أساليب التعامل.
  2. أن تعتبر الرقي في التعامل داخل أفراد الأسرة وتنشئة الأبناء والتزام الكبار بقيمة الجمال يوسع من دائرته، ويجعل القبح تصرفًا يستدعي اللوم والتأنيب وأن يكون صاحبه منبوذًا من المجتمع.
  3. أن تدرك أن جمال الجسد يذبل بمرور الأيام، أما جمال المعروف فلا تزيده الأيام إلا بقاءً ورسوخًا.

وسائل التجمل: بين التزييف والتزكية

التجمل بالمساحيق وبالكذب

خلال سعي الإنسان للتجمل يستخدم مستحضرات التجميل استحضارًا لصورة يتمناها، وبعضهم يتجمل بالكذب لأنه يشعر بالعجز عن الوصول إلى ما يريد؛ فيدعي من القوة والذكاء والمال ما لا يملك وسينكشف أمره عما قريب وسيظهر ما يحاول أن يخفيه، وخير له أن ينظر فيما آتاه الله من نعم فيتجمل بها ويسعى لاكتساب ما يحب من مواهب، وهذا السعي مهما كان متعبًا إلا أنه يجعل صاحبه يقف على أرضية صلبة.

التجمل بالتزكية

ما من إنسان إلا وفيه نقص، وهذا النقص يمكن أن يصلحه بالتطهير المستمر (التزكية)، ومهما كان العيب قديمًا ومستقرًا داخل نفسه إلا أن إخلاص الإنسان وجده في التجمل وإصلاح هذا العيب يجعله أهلًا لمعونة الله تعالى.