حينَ يقع بين يديك أحد كتب الرحلات التي يحكي فيها المؤلف تجربته في أداء فريضة الحج، فإنك ستفترض تلقائياً، أنه رجلٌ مسلم، وأنه انطلق من بلاده إلى مكة المكرمة، قاطعاً مسافةً بعيدة، ومنفقاً أموالاً طائلة، ومعرضاً نفسه لألوان وأشكال من المتاعب والمشاق، رجاء الظفر بما هو أعظم من ذلك: أداء الفريضة، والفوز بالرحمة والمغفرة، والظفر بما يناله الحاج من غنائم الروح: رؤية الكعبة المشرفة، والوقوف في المواقف المقدسة التي وقف بها الأنبياء والمرسلون، وشهود منافع النسك الكثيرة.
وتفترض حين تقرأ كتاباً يوثق تجربة الحج، أن تقرأ مشاعر خاشعةً، وسطوراً منبهرةً بما رأت من مرائي في الرحاب الطاهرة.
لكن الأمر يختلف كثيراً حين تقرأ رحلة جوزيف بيتس، فهي رحلة حج كاملة، رحل صاحبها من الجزائر إلى مكة المكرمة، مروراً بطيبة الطيبة، وأدى المناسك كلها، لولا أنه لم يكن مسلماً! فقد دخل في الإسلام مكرهاً، وأدى شعائر الحج على الرغم منه! وحين أتيحت الظروف، وثّق تجربته الغريبة تلك، وبصراحة لا يحسد عليها، ذكر رأيه في تلك المناسك التي لا يؤمن بها، والتي أداها مكرهاً. ألا يمكننا اعتبار هذه الرحلة العجيبة شيئاً يستحق الاطلاع عليه؟!
جوزيف بيتس، بحارٌ بريطاني شاب، يعمل في إحدى السفن البريطانية التي كانت تجوب البحار بنشاط محموم في النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي. وفي إحدى المرات وقع أسيراً في يد بحارٍ جزائري، كان ذلك البحار مسلماً لكنه كان جاهلاً متهتكاً، متساهلاً في أداء شعائر الدين، وذات يوم أرغم أسيره جوزيف على الدخول في الإسلام ، وهو ما كان!
على غير رغبته وجد جوزيف نفسه مسلماً، سمي “يوسف”، ونطق الشهادتين، واختتن، وامتنع عن تناول لحم الختزير، إلا في حال الخلوة بعيداً عن عيون المسلمين! كان جوزيف يصلي بلا وضوء، ويرتدي قناع الإسلام مدة خمسة عشر عاماً، قبل أن يجد الفرصة للعودة إلى بلاده من جديد. ويعتبر واحداً من أوائل الرحالين الأوروبيين الذين زاروا مكة المكرمة وكتبوا عنها.
عام ١٦٨٠ للميلاد انطلق جوزيف برفقة سيده من الجزائر إلى الإسكندرية بحراً، ثم هبطا -رفقة حجيج الجزائر- عبر النيل إلى القاهرة، لينطلقوا منها إلى السويس براً، ثم ليبحروا من السويس في رحلة طويلة مدتها شهر كامل قبل أن ترسو بهم السفينة في ميناء رابغ، ومن رابغ انطلق الركب إلى جدة ثم مكة المكرمة.
كان جلياً أن جوزيف بيتس يقدم على ممارسة شعائر لا تعني له أي شيء على الإطلاق، فهي في نظره خرافات وثنية، وانعكس عدم إيمانه على ما كتبه في وصف رحلته، فجاءت الرحلة ملأى بالسخرية والتنقص وعدم التصديق بما يسمعه من المعلومات التاريخية عن مكة والمشاعر المقدسة، فقد وصف الطواف والسعي بالمناسك الخرافية، ولم يستطع أن يعثر على معنى للسعي بين الصفا والمروة سوى أنه مشي من طرف طريق إلى طرفه الآخر، بحماس أعمىً ووثني! كان جوزيف بيتس يشعر بالرثاء لأولئك الحجاج المساكين على حد وصفه.
كما أن طول مقامه بين المسلمين لم ينتج عنه زيادة في وعيه بأبجديات الإسلام، فقد قال ” إن الكعبة هي وثن المسلمين الذي يعبدونه”!
تجول جوزيف في مكة، وصعد غار حراء، وكتب انطباعاته عن مكة وصخورها السود، وبيوتاتها غير المهيأة، وأهلها البائسين المهازيل، كما رسم مخططاً للحرم المكي، وتحدث عن أبوابه الأربعين، وعن معالمه وآياته البينات، وعن حمَام الحرم، وقد أتيح له أن يدخل الكعبة المشرفة التي كان بابها -حسب قوله- مفتوحاً لأسابيع عدة، كما تحدث عن زمزم، وعن المقامات الأربعة التي كانت تضم محاريب للمذاهب الأربعة، يأتم أتباع كل مذهب بإمامهم.
أدى جوزيف المناسك مع الحجاج، ذهب إلى عرفات، ويبدو أن المشهد هناك أسره، إذ حمله على أن يقول: “لقد كان مشهداً يخلب اللب حقاً أن ترى هذه الآلاف المؤلفة في لباس التواضع والتجرد من ملذات الدنيا، برؤوسهم الحاسرة، وقد بللت الدموع وجناتهم، وأن تسمع تضرعاتهم طالبين الغفران والصفح لبدء حياة جديدة… وإنه لأمر يدعو للأسف أن نقارن ذلك بالخلافات الكثيرة بين المسيحيين”.
مع وفد الحجيج ينطلق جوزيف من عرفات للمبيت في مزدلفة، ثم يتحركون لرمي الجمرات، وذبح الأضاحي، ويقيمون أيام التشريق في منى في أجواء احتفالية، فالناس -كما يصفهم جوزيف- يتبادلون التبريكات والقبلات، والألعاب النارية تملأ السماء طوال ليالي التشريق.
بعد انقضاء النسك يعود الحجاج إلى مكة، ويُعقد سوق تباع فيه منتجاتٌ قدمت مع الحجيج من بلدانهم، ويؤدي الحجيج طواف الوداع قبل مغادرتهم مكة المكرمة إلى بلدانهم.
وقد عاد جوزيف مع قافلة الحج المصرية، ووصف نظامها وطريقة سيرها وصفاً دقيقاً، وقد مرت القافلة بالمدينة المنورة، التي وجدها جوزيف “بلدة بائسة يحيط بها سور، وبها مسجد كبير”، ومن اللافت للانتباه أنه ذكر أن المدينة المنورة كانت تزود بالمؤن بواسطة سفن قادمة من الحبشة!
بعد أن وصل “الحاج” جوزيف إلى الجزائر أعتقه سيده، ولكنه بقي سنين عدداً باختياره في الجزائر، قبل أن يجد الفرصة للعودة إلى انجلترا، ليجد أمه ميتة وأباه حياً يرزق، وليعيش ما تبقى من أيامه هناك، مؤلفاً كتابه الذي استقيت منه مادة المقال، وكتاباً آخر عنوانه “حقائق عن الإسلام”.
رحلة جوزيف إلى البلد الحرام وثيقة تاريخية شديدة الأهمية، لأنها غطت مساحات شاسعة من العالم الإسلامي: الجزائر، ومصر، والحجاز، في فترة تاريخية لم يصلنا منها إلا القليل من الكتابات، ولأنها صادرة عن كاتب غير مسلم، أدى شعائر الحج رغما عنه، وزار الديار المقدسة كرهاً.
في مطالعة أدب الرحلات في مثل هذه الظروف التاريخية والنفسية، متعةٌ وتغذية لنهم الفضول لمن أراد أن يعرف كيف كانت تبدو مكة، والمدينة، والقاهرة، والإسكندرية، قبل ثلاثمائة وأربعين عاماً من يومنا هذا.