مما لا شك فيه أن النبي ـ ﷺ ـ أكرمه ربُّه بمزايا كثيرة، كان بها قدوة حسنة، ومن هذه المزايا الأخلاق الكريمة التي شَهِدَ الله له بها في قوله :( وإنَّك لَعَلَى خُلُقٍ عظيم )( سورة القلم: 4)، وكذلك فصاحة اللسان وبلاغة القول كما شَهِدت بذلك الآثار المروية عنه في جوامع الكَلِم ، والقول المسئول عنه وهو: أدبني ربي فأحْسن تأديبي ” جاء بعدة روايات ذَكَرَها العسكري في كتابه ” الأمثال “، والسَّرَقُسْطِيُّ في كتابه ” الدلائل “، والسيوطي في كتابه ” الجامع الصغير“، وابن السمعاني في ” أدب الإملاء “، وأبو نُعَيم الأصفهاني في تاريخ أصبهان .
ويُؤْخذ من مجموعها أن عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ قال: يا رسول الله، مالك أفْصَحُنا ولم تَخْرج من بين أظهرنا ؟ فقال: ” كانت لغة إسماعيل قد دَرَسَتْ ـ خَفِيَتْ آثارها ـ فحفَّظنيها جبريل، فلذا كنت أفصح العرب “، وأن علي بن أبي طالب ـ رضى الله عنه ـ قال له: يا نبي الله نحن بنو أب واحد، ونشأنا في بلد واحد، وإنك لتُكَلِّم العرب بلسان ما نعرف أكثره، فقال ” إنَّ الله عز وجل أدَّبني فأحْسن تأدِيبي”، ونشأتُ في بني سعد بن بكر، وأن أبا بكر ـ رضى الله عنه ـ سأله مثل ذلك، فأجاب بما يَقرُب منه .
تدل هذه الروايات على أن تأدِيب الله لنبيه كان تأديبًا شاملاً للسلوك واللغة، وذلك حقٌّ لا مرْية فيه، وشرح ذلك يَطُول، وقد وُضعت له كتب مخصوصة لكن على الرغم من صحَّة معنى الحديث فإنه بهذه الصيغة لم يصدُر عن النبي ـ ﷺ ـ بطريق صحيح عند أكثر علماء الحديث . فرواية أبي نعيم عن عمر إسنادها ضعيف، ورواية العسكري عن علي سندها ضعيف جدًّا كما يقول السخاوي، ورواية السَّرَقُسْطِيِّ عن أبي بكر سندها واهٍ شديدُ الضعف، وقال المناوي في فيض القدير على الجامع الصغير للسيوطي: إن ابن حجر حَكَم عليه بالغرابة في بعض فتاويه . وقال ابن تيمية: لا يُعرف له سندٌ ثابت . وقد وضَّح ذلك كله القسْطلاني في ” المواهب اللدنية ” وشرحه للزرقاني عند الكلام على فصاحة النبي ﷺ.
فمعنى الحديث صحيح، ولكنَّ سنده ضعيف، وإن صحَّحه أبو الفضل بن ناصر، ونرجو أن نتنبَّه إلى الفرْق بين صحَّة الكلام في حدِّ ذاته وبين نسبته إلى النبي ـ ﷺ ـ فنحْن نؤمن بأن الله أدَّبه أحسن تأديب، ولكنْ لا نَثِقُ في أن هذا الكلام صدر عنه، وقد حذَّرنا ـ ﷺ ـ من نسبة شئ إليه قولاً أو فعلاً أو وصْفًا فقال ” من كذب علي متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مقْعدَه من النار ” رواه البخاري ومسلم، ويستوي في حُرْمة الكذب عليه ما كان القصد منه حسنًا وغير حسن.