المثابرة والمواظبة على أداء العمل الصالح باستمرار هي الهدي النبوي الشريف، حيث «كان عليه الصلاة والسلام عمله ديمة»[1] كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها، وليس ثمة غاية تنتهي إليها مدة العمل الصالح إلا عند الموت ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99]. وإن صفحات الأعمال الصالحة والعبادات لا ينبغي أن تطوى أو تسقط في أي حال من الأحوال حتى يأتي يقين الموت. إن امتهان الجسد والروح في سبيل الطاعة فضل وشرف لا يعدله أي شرف، لأنه في ظلال مقام العبودية ذات عظيم الشرف والعزة، مقام الصلة بالخالق سبحانه وتعالى ومقام تكثير الأجور والرفعة والسكينة والفلاح، ولكن حتى تبقى الأعمال الصالحة في الحراسة والحصون المنيعة لا بد لها من الأمور الثلاثة الآتية:
الأمر الأول: شكر نعمة أداء العمل المتأمل اللبيب لجميع ضروب الأعمال الصالحة – وإن سميت بعضها بالتكاليف – يجد أنها متعة ومنحة إلهية التى تستوجب الشكر الدائم ﴿إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [غافر: 61]. ومن رزقت
الهداية وقد رزق خيرا عظيما الذي لا يشترى بالمال ولا بالجاه ولا يقدر عليه أحد، بل محض فضل من رب الهداية رب العالمين، ألا يستلزم ذلك الشكر للمنعم سبحانه وتعالى؟ ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83]. ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات – 17] والله سبحانه هو وحده المان بالهداية والموفق لها والمتفضل. ولما قيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟ فقال: تلك عقول كادها الله، أي لم يصحبها التوفيق.[2] وقد كان لنا في الأنبياء أسوة حسنة باستشعار أهمية الشكر على نعمة الهداية والعبادة التي أولاها الله تعالى لمن يشاء من عباده، ومن ذلكم قول نبي الله
سليمان عليه السلام ﴿
رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ [النمل: 19]. وقول شعيب عليه السلام: ﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [هود: 88] ولك أن تتأمل نشيد الصحابة الكرام مع النبي الكريم عليه وآله وصحبه الصلاة والسلام:
والله لولا الله ما اهتدينا … ولا تصدقنا ولا صلينا.[3] وحري بكل من يسر الله له أعمال البر وعمل عملا صالحا أن يرى أن لله تعالى المنة عليه إذ وفقه وأهله للقيام بذلك العمل قلبا وبدنا، وأنه نعمة عظيمة تستوجب الشكر فيلهج بحمد الله وشكره. ألم تر كيف حث الله تعالى عباده المؤمنين على شكره لتيسيره لهم بإتمام الصيام ﴿وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]. وما من مصلٍّ أو مزكٍّ أو صائم أو حاج أو عامل الخير إلا ولله تعالى وحده عليه المنة أن جعله في مقام عبوديته وطاعته. يقول رسول الله
ﷺ: «إذا أراد الله بعبد خيرا استعمله» قال: فقيل: كيف يستعمله يا رسول الله؟ قال: «يوفقه للعمل الصالح قبل أن يموت»[4]. ثم إن من ثمرات ملازمة الشكر عقب أداء العمل الصالح أنه سبب لبقائه ولحصول مزيد العطاء والنعم من ربنا الشكور، وفي ذلك قال سبحانه: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم} [إبراهيم:7]. وقال الشيخ السعدي: “وفي الإتيان بالأمر بالشكر، بعد النعم الدينية: من العلم، وتزكية الأخلاق، والتوفيق للأعمال، بيان أنها أكبر النعم، بل هي النعم الحقيقية التي تدوم إذا زال غيرها؛ وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل أن يشكروا الله على ذلك؛ ليزيدهم من فضله، وليندفع عنهم الإعجاب؛ فيشتغلوا بالشكر! “[5]. وقال علي رضي الله عنه لرجل من أهل همدان: «إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل؛ حتى ينقطع الشكر من العبد».[6] الحاصل أن التوفيق لقيام بأي
عمل صالح يعد نعمة، وكل نعمة تستوجب شكر المنعم سبحانه، وكل شكر النعمة موعود بزيادة الخير من الرب الكريم.
الأمر الثاني: مقاومة العجب والغرور بصالح الأعمال من مداخل الشيطان الخفية ودسائسها على الأعمال الصالحة بعد استقرارها هو الاغترار المعقب لها وخاصة بعد مواسم القربات، حيث يدب إلى بعض النفوس المنّ بالأعمال والتباهي بالطاعات والاتكال عليها والاعجاب بها، وهذا داء الغرور أو الاغترار خطير جدا على صحف الأعمال الصالحة فإنه قد يمزقها أو يمحها. وقد جاء عن بعض السلف أنه قال: “قد يعمل العبد الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الطاعة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيحدث له انكسارا، وتوبة، واستغفارا، وندما، فيكون ذلك سبب نجاته، ويعمل الحسنة، فلا تزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى، كلما ذكرها أورثته عجبا وكبرا ومنة، فتكون سبب هلاكه[7]”. ولذا يجب التصدي لأمراض القلوب المبطلات للأعمال والسعي الحثيث لمكافحتها بالاستعانة بالله تعالى ثم بالنظر إلى دأب السالفين الأبرار الجامعين بين صالح الأعمال والشفقة من عدم القبول. يقول ابن عون: لا تَثِقْ بكثرة العمل، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا .[8] وقد سألت أم المؤمنين رضي الله عنها النبي عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60] فقالت: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ” لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون أن لا تقبل منهم ﴿ أولئك
يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون﴾ [المؤمنون: 61][9] وكانوا إذا اجتهدوا في الأعمال اتهمون أنفسهم بالتقصير نظرا وتأملا في قوله تعالى: ﴿ إنَّما يَتقبَّلُ الله من المتَّقين﴾ [المائدة: 27]. قال الحافظ ابن رجب: “هذه الآية يشتدُّ منها خوفُ السَّلف على نفوسهم، فخافوا أنْ لا يكونوا من المتَّقين الذين يُتقبل منهم”[10]. وربما من أجل رعونة الاغترار والرياء التى قد تصاب النفوس استحب اختتام الطاعات بالاستغفار، كالحج والصلاة وقيام الليل ومجالس الذكر ونحوها، وقد قال تعالى في آيات الحجِّ ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم﴾ [الحج: 199] وثبت -كما في
صحيح مسلم– أن رسول الله
ﷺ كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا. وأشار أبو العباس ابن تيمة إلى بعض فوائد الاستغفار وآثاره في حياة الإنسان وقال: “الاستغفار يخرج العبد من الفعل المكروه، إلى الفعل المحبوب من العمل الناقص إلى العمل التام ويرفع العبد من المقام الأدنى إلى الأعلى منه والأكمل؛ فإن العابد لله والعارف بالله في كل يوم بل في كل ساعة بل في كل لحظة يزداد علما بالله. وبصيرة في دينه وعبوديته بحيث يجد ذلك في طعامه وشرابه ونومه ويقظته وقوله وفعله ويرى تقصيره في حضور قلبه في المقامات العالية وإعطائها حقها فهو يحتاج إلى الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار؛ بل هو مضطر إليه دائما في الأقوال والأحوال في الغوائب والمشاهد لما فيه من المصالح وجلب الخيرات ودفع المضرات وطلب الزيادة في القوة في الأعمال القلبية والبدنية اليقينية الإيمانية.”[11] والشاهد أن الاستغفار حصن العمل ووقايته من الاحباط، لأن فيه إعلان الإنسان عن اعترافه بالتقصير وعدم اعجابه بالعمل.
الأمر الثالث: الحرص على الاستمرار بالعمل الصالح لا ينبغى اتخاذ المواسم الفاضلة مواقيت لتنشيط الأعمال الصالحة وتكثير الثواب؛ من حيث تكون انقضائها إيذانا للفتور والركون والحور بعد الكور، ولكن بالعزم الأكيد على مداومة الطاعة بلا انقطاع هو أحسن الوسائل للمحافظة على العبادة – كالقيام والصيام والتلاوة ونحوها،- لا بالكيمية والكثرة وإنما بالديمومة والإتقان وإن قل، وكان السلف كما قال الحافظ ابن رجب: يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان.[12] ويروى من دعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صلاته: “اللهمّ إنّي أسألك الثّبات في الأمر، والعزيمة على الرّشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم[13] وأخبرت عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله
ﷺ كان إذا عمل عملا أثبته، وكان إذا نام من الليل، أو مرض، صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة[14]. ومن هذا القبيل نال بعض خيار الخلق لقب “أولو العزم” وسار عليه سلف الأمة، وهذا الصحابي الجليل
أبو هريرة رضي الله عنه يقول: أوصانى خليلى بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر.[15] وعن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس قال: حدثني عنبسة بن أبي سفيان في مرضه الذي مات فيه بحديث يتسار إليه، قال: سمعت أم حبيبة تقول: سمعت رسول الله
ﷺ يقول: «من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة» قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله
ﷺ. وقال عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة. وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس.[16] وأخبارهم في هذا المسار مشهورة. نعم، في بداية الأمر لابد من المقاومة ومجاهدة النفس وتدريبها على ثبت العبادة، ولكن بعون الله تعالى وعقد العزم مع الحزم فإن المرحلة التى بعدها هي مرحلة الحلاوة والسكينة وصفاء القلب ونضرة الوجه، وهذا الذى عبر عنه ثابت البناني بقوله: “كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة”.[17] وقال محمد بن المنكدر:” كابدت نفسي أربعين عاما حتى استقامت لي!! “[18] وقال سليمان التيمي رحمه الله: “إن العين إذا عودتها النوم اعتادت، وإذا عودتها السهر اعتادت”.[19] على أنه قد يؤتى الإنسان أحيانا من قبل المعصية ارتكبها أو يرتكبها فيصعب عليه مداومة الطاعة إلى حد أنه يشعر بتكليف النفس ما لا يطاق، ومن لاحظ مثل هذا الشعور فليراجع نفسه وليفتقد محل الخلل. قال رجل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله: “إني لا أقدر على
قيام الليل فصف لي دواء؟!! فقال: “لا تعصه بالنهار وهو يقيمك بين يديه في الليل، فإن وقوفك بين يديه في الليل من أعظم الشرف، والعاصي لا يستحق ذلك الشرف”[20] قال
سفيان الثوري رحمه الله: “حرمت قيام الليل خمسة أشهر بسبب ذنب أذنبته[21] قال أبو سليمان الداراني: “قلت ذنوب القوم فعرفوا من أين أوتوا، وكثرت ذنوبنا فلم ندر من أين نؤتى”.[22] وأما ثمرات المداومة على الأعمال الصالحة فكثيرة جدا وأهمها، تيسير طاعات أخرى ومن ثم نيل ولاية المحبة والقرب من الله تعالى. وقال عروة بن الزبير: “إذا رأيتَ الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن الحسنة تدل على أختها، وإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات، فإن السيئة تدل على أختها”[23] وعن أبي الحسين المزيِّن، قال: “الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة”[24] وقال النبي
ﷺ فيما يرويه عن ربه: “وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره اللذي يبصر به “[25] ولذا كان أحب الأعمال إلى الله» أدومه وإن قل« كما قال
ﷺ [26]. والخلاصة، أن شكر نعمة الطاعة والمداومة عليها مع خلو النفس من أمراض القلب كالعجب ونحوه هي التى تتولى حراسة الأعمال الصالحة والمحافظة على كيانها وآثارها، ومن هنا أصبح من الضروري الاعتناء بهذه الأمور الثلاثة ثم الهم القبول.
[1] متفق عليه
[2] زاد المسير في علم التفسير 4/179
[3] رواه البخاري (6620).
[4] رواه الترمذي.(2142) وصححه
[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان. ص74
[6] عدة الصابرين لابن القيم، ص123
[7] مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين 1/307
[8] مجموع رسائل ابن رجب 4/440
[9] رواه الترمذي (3175) وصححه الألباني
[10] جامع العلوم والحكم 12/10
[11] مجموع الفتاوى 11/696
[12] مجموع رسائل ابن رجب 1/ 352
[13] رواه النسائي (1304) وضعفه الألباني
[14] رواه مسلم (141)
[15] متفق عليه
[16] رواه مسلم (101)
[17] حلية الأولياء 2/320
[18] المصدر السابق 3/147
[19] قيام الليل للمروزي. ص:66
[20] فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب 8/287
[21] المصدر السابق 7/99
[22] حلية الأولياء 2/271
[23] المصدر السابق 2/177
[24] شعب الإيمان (6829)
[25] رواه البخاري (6502)
[26] رواه مسلم (216)