نستذكر في بداية هذا الموضوع أن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لتحقيق مصالح العباد الدنيوية والأخروية، وهذه المصلحة تمثل المحورية الكبرى لجميع تشريعات الإسلام، لذلك أطلق الشاطبي أن ” وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا“.
والمصلحة تعني كل منفعة تؤدي إلى إقامة الحياة الدنيا لا إلى هدمها، وإلى ربح الحياة الأخرى والفوز فيها. عرفها الأصوليون بعبارة جامعة أن (المصلحة هي جلب المنفعة ودفع المفسدة)[1]. وتشمل جميع مقومات الحياة المادية (الجسمية أو الشهوانية)، والمعنوية (العقلية أو الروحية)، وأسبابها وأضداد كل واحد منها. كما أنها تنقسم من حيث النظر إلى الأفراد التي تنتظم تحتها نوعان: عامة وخاصة.
فالمصلحة الخاصة هي الأمور التي تحقق نفع آحاد المجتمع مثل أعمال العبادات من صلاة وصيام وتقوى .. أما المصلحة العامة – وهي مجال هذا المقال – فهي المنافع التي يتحقق بها صلاحُ عموم الأمة أو الجمهور، ولا التفاتَ منه إلى أحوال الأفراد إلّا من حيث إنهم أجزاء من مجموع الأمة..
ويدخل في المصلحة العامة معظم ما جاء فيه التشريع القرآني، ومنه معظم فروض الكفايات، كطلب العلم الديني والجهاد وطلب العلم الذي يكون سبباً في حصول قوة للأمة[2]، وذلك لما يتسم الخطاب الشرعي من العموم ودخول جميع المكلفين في تشريعاته.
وتتميز المصلحة العامة أنها تعنى بالحفاظ على كيان الأمة وانتظامها كمجموعة وليست كأفرادا، لذلك نالت الرعاية الشرعية ابتداء من حيث شمولها لصلاح الأمة والمجتمع عامة، وركزت الخطابات الدينية في الغالب الأعم عليها لأن في بقائها حياة الأمة وقوتها وعزتها، وضياعها ذهاب الدين والدنيا والتفرق.. بل ذهاب لمصالح الأفراد. ومن هنا نرى دعاة التجديد في هذا العصر كرسوا جهودهم في الحفاظ على هوية الأمة، بل الخطاب النبوي الأخير في أكبر مشهد أحكم هذا المبدأ كما جاء في خطبة الوداع (لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ).
كما يدخل في المصلحة العامة جميع القضايا المتعلقة بسياسات الدولة الداخلية والخارجية، المالية وغيرها، والشؤون الدينية والمدنية وغير ذلك، مما يرجع إلى النظام العام ووسائله.
فإقامة القضاء مثلا من المصالح العامة ونصب القضاة من الوسائل إلى جلب المصالح [العامة والخاصة]، وكذا “حماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين من وقوعهما في أيدي غير المسلمين، وحفظ القرآن من التلاشي العام أو التغيير العام بانقضاء حفاظه وتلف مصاحفه معاً، وحفظ علم السنة من دخول الموضوعات، ونحو ذلك مما صلاحُه وفسادُه يتناول جميعَ الأمة وكلَّ فرد منها، وبعض صور الضروري والحاجي مما يتعلق بجميع الأمة”.
يربطنا ما سبق بقضية أكثر أهمية، هي غاية هذا المقال الحالي، وهي سؤال ضرورة ضبط موقع المصالح العامة في التكاليف الشرعية، بين حق الله وحق العبد، ويترتب على هذه المعرفة إضفاء المعنى القيمي على المصلحة العامة. ولمعالجة هذا أمامنا فرضيتان:
الأولى – أن المصالح العامة إذا كانت ضمن حقوق الله حسب ما اشتهر بين الأصوليين فإنها إذن غير قابلة للإسقاط أو الإهمال بحال، شأننا فيها مثل شأننا مع الفروض العينية التي يظهر فيها معنى القربات.
والفرضية الثانية – وإن صنفت هذه المصالح العامة ضمن حقوق العباد فالمشهور أنها تقبل الصلح والإسقاط والمقاضاة، مثل حق التقاضي في الديون والتظلم من الغصب وغيرهما. أم نقول ينتزعها الحقان معا، فهي من حقوق الله والعباد معا لكن أيهما الغالب؟
ولبيان مجال تصنيف المصالح العامة نستنطق جوانب متعلقة بالموضوع من نظرية الشاطبي، وذلك في نقاط آتية:
بين حق الله وحق العبد من التكاليف
1- ما كان حقا خالصا لله وأصله التعبد: يدخل في هذا جميع العبادات والطاعات التي يتقرب بها إلى الله خالصا من حقوق الله تعالى المحضة من العباد في الدنيا لإحقاق السعادة لهم في الآخرة. (2/539).
2- ما اشتمل على حق الله وحق العبد لكن غلّب فيه حق الله – لأن حق العبد غير معتبر شرعا، مثل الدفاع عن النفس وعدم تسليمها للقتل.
3- ما اشترك فيه حق الله وحق العبد، والمغلب فيه حق العبد – والأصل في هذا النوع أنه معقول المعنى، مثل حق العبد في إسقاط الدين عن المدين أو تقاضيه.
وتبعا لهذا النموذج فإنه اعتبر جميع الأحكام الشرعية، العبادات منها والعادات حق الله تعالى، فإنما ينحصر حق العبد في هذه الأحكام من حيث تحقيق المصالح المترتبة على الفعل.
فإن الحق في العبادت مصروف لله وحده غير قابل الشركة ولا المناصفة.. ويرجع الحق في العادات إلى الله لكن من النظر الكلي. لذلك جاء في الموافقات مجال تدخل حق الله في العادات، وذلك من وجهين:
الوجه الأول – من جانب الوضع الكلي الداخل تحت الضروريات: والحق في هذا النوع لا يقبل الإسقاط، لذلك لا يجوز تحريم الطيبات التي أحلها الله تعالى، من المآكل والمشارب والأنكحة وغيرها
الوجه الثاني – من جانب الكسب والانتفاع الذي يقتضي العدل بين الخلق (الجانب التفصيلي): وهما نوعان، أحدهما: ما كان لغيره فيه حق، يسقط إذا أسقطه الآخر كحق التقاضي في المال.
والثاني: ما كان حقا للعبد وحده لا علاقة لغيره فيه، فهو لا يسقط حتى لو أسقطه، مثل حفظ النفس والمال فلا يفسدهما بالإزهاق والإحراق. (2/546).
ويبقى حق العبد في الأحكام الشرعية عبادات وعادات من وجهين: أولهما من جانب الإجزاء في الآخرة، والثاني: أخذه بالنعمه على أكمل وجهها في الحياة الدنيا.
فإذا كانت جميع الأحكام الشرعية حسب ما أثبتناها من خلال النموذج السابق حقوقها مصروفة إلى الله من حيث الأصل والنظر الكلي، فإن المصالح العامة على النحو الذي ذكرنا أمثلتها من إقامة المجتمع المسلم وتأمين النظام العام للدولة الإسلامية من حقوق الله تعالى، وإن كانت مما يعقل معناه لكن لا تعتبر فيه شرعا منفعة خاصة للعبد في الدنيا يقول الشاطبي: “الضروريات ضربان: أحدهما:ما كان للمكلف فيه حظ عاجل مقصود، كقيام الإنسان بمصالح نفسه وعياله ..
والثاني: ما ليس فيه حظ عاجل مقصود، كان من فروض الأعيان كالعبادات البدنية والمالية، من الطهارة، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج.. أو من فروض الكفايات، كالولايات العامة، من الخلافة، والوزارة، والنقابة، والعرافة، والقضاء، وإمامة الصلوات، والجهاد، والتعليم وغير ذلك من الأمور التي شرعت عامة لمصالح عامة إذا فرض عدمها أو ترك الناس لها انخرم النظام”[3].
ويتلخص لنا من هذا المقال أن المصالح العامة – وقد يطلق عليها حق العام أو المسؤولية الاجتماعية – تدخل ضمن حق الله تعالى فلا يجوز إسقاطها أو إهمالها بالتقصير أو التعدي، وهي ليست أقل وجوبا من الواجبات العينية والطاعات البدنية، بل رعايتها أوجب لما يشتمل على ضياعها من انخرام حياة الأمة وذوبان هويتها، وذهاب مصالح المجتمع والأفراد.
[1] يقول الشاطبي: المصالح المجتلبة شرعا والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى1، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية.. والشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله2، وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن} [المؤمنون: 71]. انظر: الموافقات (2/64).
[2] مقاصد الشريعة الإسلامية، ابن عاشور (3/202). والمصلحة الخاصة هي ما فيه نفع الآحاد باعتبار صدور الأفعال من آحادهم ليحصل بإصلاحهم صلاح المجتمع المركب منهم. فالالتفات فيه ابتداء إلى الأفراد، وأما العموم فحاصل تبعاً. وهو بعض ما [جاء] به التشريع القرآني، ومعظم ما جاء به في السنة من التشريع. وهذا مثل حفظ المال من السرف بالحجر على السفيه مدة سفهه.
[3] الموافقات (2/305).