عندما نتحدث عن الصيام لأحد أشهر الدعاة فبالتأكيد نتحدث بالضرورة عن قصة صيام جيفري لانج أستاذ الرياضيات، وهو في أحد أيام الصيف الحارة تلوَّى من الجوع، ولم يتمكن أن يتابع الدوام في الجامعة فغادرها وعاد إلى بيته ظُهرًا يتلوَّى من الجوع، وإذا به وهو يدخل بيته يشاهد على الشاشة المجاعات في أفريقيا، فتذكَّر أنَّه ذاق طعم الجوع من قبل، فصاح: “يا رب، لقد فهمت حكمة الصيام”.
حينما رأى لانج الجياع الفقراء في أفريقيا كان قد ذاق طعم الجوع الشديد، واكتوى بنار العطش من قبل، فلما رأى صور الجياع على الشاشة قفزت إلى ذهنه تلك الصورة التي طالما كابدها من قبل، واستشعر كيف أن الصيام أعاد إلى إحساسه هذه الصورة النفسية القديمة، وأدرك أن هذه الصورة النفسية التي عاشها لن يستشعرها إلا مَن عاشها، وجرَّبها بنفسه، فعرف أن الصيام وسيلة إلى تقريب صور البائسين إلى النفس، وأنه يُحدث مشاركة وجدانية بين الصائم وبين هؤلاء المحتاجين.
عندما يتحدث البعض عن مسألة حكمة الصيام لدى جيفري لانج، يدرك هنا تدريب عملي لهذا الإحساس، الذي لا يَسهل تكوينه بالخطب والكلمات، ولا حتى بالصوت والصورة، فنقل الإحساس بالتجربة لا يضاهيه النقل بأي صورة أخرى.
لا يعرف الشوق إلَّا من يكابده ولا الصبابة إلَّا من يعانيها
كم رجلًا سقى كلبًا لاهثا!
وهل تحرك ذلك الرجل فأمسك خفيه وملأهما ماءً ليسقي ذلك الكلب اللاهث، الذي كان يأكل الثرى من العطش، هل تحرك إلَّا لأنه كان قد أحس بنفس عطشه؟! ففي الحديث أن رسول الله (ﷺ) قال: «بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب وخرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: في كل ذات كبد رطبة أجر».([1])
ففي مسألة الصيام وأكبر دعاة أمريكا، تجربة لمقاساة الحرمان والجوع، قال العلَّامة الكمال بن الهمام عن الصائم: “من فوائد الصيام : ” كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا في عموم الأوقات فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه فينال ما عند الله تعالى من حسن الجزاء”([2])
الترف ربما لا يدوم!
ذكر الشيخ السباعي — رحمه الله — أنه كان يعرف أبًا كان ذا نِعْمة ومال وفير، وقد عوَّد أولاده الطعام الطيب واللِّباس الفاخر، ثم قَدَّر الله — تعالى — عليه الفقر، فأعسر بعد اليسر، فجاء شهر رمضان وهو لا يجد ما يُنْفِق كما كان يُنْفِق من قبل، وله من مكانته وحيائِه ما يمنعه أن يسألَ الناس صدقة أو دَيْنًا، فلم يكن يستطيع أن يقدِّمَ لعائلته ما تفطر عليه إلا الجبن والزيتون والفول، واحتمل أبناؤه ذلك أول يوم وثانيه.
وفي اليوم الثالث، صاح ولده الصغير: “يا أبتِ، لقد أحرق بُطونَنا الجبنُ والزيتونُ، ونحن صيام نحتاج إلى ما يبل الأُوَام ويُرطب الجوف في هذا الحَر الشديد، ويكاد يُغمى علينا من روائح الطعام عند جيراننا، فلماذا لا تُطعمنا كما يُطعم جارُنا أولادَه؛ وكما كنت تُطْعِمُنا من قبلُ؟ وطفرت دمعة من عين الصبي.
خرج الأب بعدها إلى جانب مظلم من الدار ثم بكى؛ لأنه لا يريد أن تتفتح قلوب أبنائه أول ما تتفتح في الحياة على غدر المجتَمع، وقسوة الناس الذين لم يرحموا فيه عُسْرَه، وتحوُّلَه من الغنى إلى الفقر.([3])
لقد كتب عالم نفساني ألماني بحثًا عن تقوية الإدارة أثبَتَ فيه أن أعظم وسيلة لذلك هي الصوم. أمَّا الإسلام فقد سبَق علماء النفس كما سبق من قبل أطباء الجسم.([4])
راحتَها أريد
حكي عن بشر الحافي : أنه سار ومعه رجل في طريق طويل، فعطش صاحبه فقال له: نشرب من هذه البئر. فقال بشر: اصبر إلى البئر الأخرى! فلما وصلا إليها قال له: اصبر إلى البئر الأخرى!
فما زال يعلله ويصبره، ثم قال: هكذا تنقطع الدنيا، بالصبر والتصبير.
كان بعض السلف يقول لنفسه: والله ما أريد بمنعك هذا الذي تحبين إلا من الإشفاق عليك.
قيل للحسن البصري: كم تُتعب نفسَك! قال: بل راحتَها أُريد!