يركز الكاتب والمفكر طه عبد الرحمن على أن للحداثة سمتين أساسيتين الاولى ان كل التحولات التي حصلت في المجتمع الغربي هي تحولات تراكمية نقلت المجتمع من طور حضاري إلى طور اخر أما السمة الثانية التي تميز الحداثة الغربية فهي أنها تحولات داخلية أي أن الغرب هو الذي قام بها من ذاته و بمقتضيات مجتمعه و ليست حداثة واردة عليه و لا مفروضة عليه.
ويخلص طه عبد الرحمن إلى أن السمة التي تجمع بين التراكم و التلقائية هو الإبداع. فالخاصية الأساسية للحداثة أنها جملة الإبداعات التي جاء بها الإنسان الغربي.
ويُعد طه عبد الرحمن من أبرز الفلاسفة الذين أفرزهم عالم الإسلام حيث تغطي مؤلفاته مجالات واسعة تتناول موضوعات ترتبط باللغويات والمنطق والوجود والعقل والتواضع والعنف والمادية والعقيدة والجدل والحوار، بل وفلسفة اللباس. بيد أنه على الرغم من اتساع اهتماماته، فإن الخيط الذي يربط كلَّ أطراف فلسفته هو الخيط الأخلاقي. ويظلُّ مشروع عبد الرحمن – في كل أبعاده ووجهاته المتنوِّعة – منتميًا إلى ما نطلق عليه بصفة عامة: “فلسفة الأخلاق”.
وفي هذا الشأن، وبعد كتابيه “قصور الإستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي”، و”القرآن والشريعة: نحو دستورية إسلامية جديدة”؛ يصدر كتاب جديد للأكاديمي الفلسطيني الكندي وائل حلّاق تحت عنوان “إصلاح الحداثة: الأخلاق والإنسان الجديد في فلسفة طه عبر الرحمن”. الكتاب الذي نقله عمرو عثمان إلى اللغة العربية، يتناول تجربة الفيلسوف المغربي صاحب “فقه الفلسفة” من زاوية معيّنة هي “الأخلاق” التي تضمّنتها فلسفته ومنجزاته مجتمعة.
مؤلّف “الدولة المستحيلة” ينطلق في كتابه الجديد من فكرة مفادها أنّ طه عبد الرحمن، في مؤلّفاته ومنجزاته، وباعتباره واحدًا من أبرز فلاسفة العالم الإسلامي كذلك، كان حريصا على فكرة أن يكون ما يقدّمه قادرا على تغطية مجالات فكرية واسعة، وقريبا من تناول موضوعات مرتبطة بالمنطق والوجود والعقل والعنف، بالإضافة إلى المادّية والعقيدة أيضًا. ويرى حلّاق أنّ هذه الاهتمامات التي شغلت صاحب “شرود ما بعد الدهرانية” إنّما كانت مرتبطة بخيط واحد أخلاقي أمسك وأحاط بجميع أطراف فلسفته.
الأعصاب المركزية
ويبدو أن مسألة الأخلاق هي ما يعني حلاق في صلب اشتباكه الخطابي مع المشكلات التي تعانيها الحداثة بشقّيها الغربي والشرقي وتلك القائمة في البلاد الإسلامية، وهو لا يسعى في كتابه هذا إلى الإحاطة بأبعاد مشروع طه عبد الرحمن بصورة شاملة وكاملة، وإنّما يسعى إلى مناقشة أطراف وأبعاد مُحدّدة في تجربة المفكّر المغربي تمهيدًا لكشف ما يسمّيه بـ”الأعصاب المركزية” التي قدّمت مشروعه بالصورة التي هو عليها حاليًا.
ويقول وائل حلاق في مقدمة الكتاب أن طه عبد الرحمن يركز في كتابه على قضية (الأخلاق)، إذ يخيطها في نسيج اشتباكه الخطابي مع المشكلات المركزية التي ترزح تحتها الحداثةُ في “الغرب” و”البلاد الإسلامية” (بحسب إشارة عبد الرحمن) على السواء، وبالنظر إلى الغرب وبلاد الإسلام لا باعتبارها دالّات جغرافية، وإنما تشكلات معرفية من الدرجة الأولى.
وبناء عليه، لا يدعي الدكتور وائل حلاق أن هذا الكتاب يحوط بكل أبعاد مشروع عبد الرحمن الضخم أو حتى بأغلبها، إلا أنه يأمل أن ما يناقشه فيه يكشف عن “الأعصاب المركزية” التي يعمل نظام فكره من خلالها.
بعبارة أخرى، يتناول هذا الكتاب الخلايا الحيوية التي تجعل مشروع عبد الرحمن ما هو عليه، والتي إن غيَّرنا تكوينها الداخلي يصير ذلك المشروع مختلفًا اختلافًا جوهريًّا عمَّا نعرفه عنه الآن. يعنى هذا أيضًا أنه مع تواصل مشروع عبد الرحمن، فإن لدينا بالفعل نسيجا فكريا ضخما يمكن التعرف إليه بوصفه إسهاما متميزا في الأخلاق جديرا بأن يجذب انتباهنا وبأن يكون مادة لبحثنا.
المفهوم الإسلامي للحياة
ويغوص كتاب حلاق الجديد في المفاهيم التي تشكل نظام طه عبد الرحمن المعرفي، ومنها القيم المعنوية والروحية، مثل حب الله والخوف من فقدان حبه، ويعول على مفهومه الجديد عن الإنسان المستمد من المفهوم الإسلامي للحياة لتغيير وعي الإنسان وسلوكه تجاه الموجودات.
في المقابل، يحذر طه عبد الرحمن -وفق كتاب حلاق- من “الغطرسة الوجودية الحديثة” مركزا على قيم التواضع والامتنان المترابطة، ويتناول مسألة السيادة وحب السيطرة، مؤكدا على أن الإنسان يجب أن يؤمن بالمبادئ العليا الأبدية التي أنشأها خالق الكون بأسره والتي -مثلها مثل القوانين الفيزيائية كالجاذبية- لا يمكن تغييرها أو تجنبها دون عواقب مدمرة.
ويؤكد حلاق أن “الكتابة عن أي شيء مركزي يعني أيضا عدم الكتابة عن أشياء أخرى كثيرة قد يكون بعضها مهما ولكن تلزم إزاحته إلى الهامش. ويقول “يجدر بي أن أوضح في بداية هذا الكتاب أن النمط المدهش لطه عبد الرحمن المفكر لم يكن السبب الوحيد الذي استرعى انتباهي له. بل هناك سبب آخر، ألا وهو أن مشروع عبد الرحمن يرتبط بالقضايا نفسها التي استولت على اهتمامي خلال العقديْن الماضييْن”.
ويتحدث حلاق عن خاتمة الكتاب ويقول إنها “تُظهر بوضوح المشترك بين مشروعيْنا، وهي نقطة يجب أن تظل حاضرة أثناء قراءة هذا الكتاب وفهمه. آمل أن أي نقد أقدمه في معرض مناقشة كتابات عبد الرحمن وسبر أغوارها هو نقد عادل وصادق لأسس مشروعه المركزية والتي أحسبها – في مجملها – سليمة ومتماسكة”. ويضيف “يلزم عن هذا أيضا أنه في معرض نقد كتابات عبد الرحمن، فإنني أستمر في تأملاتي الشخصية التي بدأتها في كتابي الشريعة: النظرية، الممارسة، والتحولات (2009)، ثم استأنفتها في كتاب الدولة المستحيلة (2013)، ومن ثم كتاب قصور الاستشراق (2018)”.
حوار المشرق والمغرب
يؤكد وائل حلاق أن المفكر المغربي طه عبد الرحمن يمثل صياغة لتقاليد فلسفية جديدة غير غربية ولا تتمحور حول الغرب، ويستكشف أن مشروعه الفلسفي يلقي الضوء على التيارات الفكرية الحديثة في العالم الإسلامي، ويطرح نقدا هائلا للحداثتين الغربية والإسلامية.
ويجادل حلاق في كتاب “إصلاح الحداثة.. الأخلاق والإنسان الجديد في فكر طه عبد الرحمن” بأن مشروع المفكر المغربي ينطلق من الأسس المعرفية التي عبر بها معظم المثقفين المسلمين المعاصرين عن مشاريعهم الفكرية، لكنه يرفض بشكل منهجي أنماط التفكير التي هيمنت على المشهد الفكري الإسلامي منذ بداية القرن العشرين، بما فيها “القومية والماركسية والعلمانية والإسلام السياسي والليبرالية”.
وبدلا عن ذلك، يقدم طه عبد الرحمن طرقا بديلة للتفكير -بحسب حلاق- ويطور نظاما أخلاقيا قويا بهدف إصلاح الحداثة الحالية.
ويقول حلاق إن مشروع عبد الرحمن يرتبط بالقضايا نفسها التي استولت على اهتمامه الفكري خلال العقدين الماضيين، وكتب ضمنها كتابه “الشريعة: النظرية، الممارسة، والتحولات”، ثم “الدولة المستحيلة”، ثم “قصور الاستشراق”.
الأخلاق كمجال مركزي للإسلام
ويحلل حلاق النظام الأخلاقي الذي يبنيه طه في جدل مع “الأسئلة المركزية التي ابتليت بها الحداثة في كل من الغرب والعالم الإسلامي”، كما يشتمل كتاب حلاق على آراء نقدية ومحاولة تبسيط لفكر طه وتقديمه إلى القراء الغربيين بالأساس، في محاولة للإجابة عن المشكلات الهائلة للحداثة الغربية.
ووصف حلاق الفيلسوف المغربي بأنه عالم جمع علوم اللغة مع التقاليد الفكرية الإسلامية والتراثية إلى جانب المتابعة الذكية للمخرجات الفكرية الأوروبية والأميركية، معتبرا أن الخط الذي يمتد عبر كامل نسيجه الفلسفي هو الخيط الأخلاقي في جميع أبعاده واتجاهاته المتنوعة.
ويرى حلاق أن مشروع طه عبد الرحمن الفكري هو أقوى شهادة على أن الأخلاق هي المجال المركزي للإسلام، ويعتبر أن مفهومه الجديد عن الإنسان العقلاني والروحي يعد نوعا من الترياق لمرض الحداثة في الزمن المعاصر، وينتج إنسانا مختلفا أخلاقيا في جوهره.
ويشدد طه عبد الرحمن على الجمع بين الأخلاق والدين كأصل الأصول في مشروعه الفلسفي الأخلاقي، منتقدا “الحداثيين العرب” الذين يجيزون لأنفسهم انتقاد الديني بواسطة ما هو لا ديني، متسائلا “لم لا يجوز عند سواهم أن ينتقدوا اللاديني بواسطة ما هو ديني؟” ومستنكرا “لم لا يقبلون انتقاد الحداثة العلمانية بواسطة الأخلاق الإسلامية؟!.
وفي كتابه “سؤال الأخلاق.. مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية” يساهم طه عبد الرحمن في ما يعتبره “طلب أخلاقيات تنأى عن السطح الذي وقفت عنده الحداثة وتغوص في أعماق الحياة وأعماق الإنسان، فلا أعمق من حياة تمتد من عاجلها الى آجلها ولا أعمق من إنسان يتصل ظاهره بباطنه”.
عبد الرحمن يرد على حلاق بثلاث مبادئ
وفي تعقيبه الذي نشر مستقلا في كتاب حلاق، اعتبر طه عبد الرحمن أنه أسس دعوى “الفصل بين واقع الحداثة وتطبيقاتها” على ثلاثة مبادئ “تجمع بين مقتضيات النظر ومقتضيات العمل”، وهي “مبدأ التقريب التداولي” الذي شرحه في كتابه “فقه الترجمة”، مشيرا إلى الحاجة “للتصرف في المنقول بما يوافق مقتضيات المجال التداولي للمتلقي”.
والثاني هو “مبدأ المنافسة الظرفية” الذي يقتضي مراعاة الظروف التي تحيط بالمتلقي، منتقدا “حالة السكرة بالحداثة” التي سادت في الثقافة العربية “كأنها الشريعة الجديدة التي لا يزيغ عنها إلا هالك”، مضيفا “تعيّن علي إخراج القراء من هذه السكرة الحداثية التي استبدت بهم”، مميزا بين مستويين اثنين في الحداثة ميّز بهما بين “الصالح والطالح من مكتسباتها”.
أما المبدأ الثالث فهو “توسيع نطاق التواصل الفكري” للتفاعل مع الآخر مفرقا بين روح الحداثة أي “المعاني الموجهة للحداثة” وتطبيقها أي “المباني المجسدة للحداثة”، واستنبط طه عبد الرحمن من “واقع” الحداثة الغربية مفاهيم ستة تتحدد بها روحها، هي الاستقلال، والإبداع، والتعقيل، والتفصيل، والتوسع، والتعميم.
الانفصال بين واقع الحداثة وروحها
وناقش طه عبد الرحمن اعتراض وائل حلاق الأساسي على فكرته في الانفصال بين واقع الحداثة وروحها، مؤكدا أنه “لا غلو فيه ولا تكلف”، واعتبر أنه “فصل نسبي”، إذ لا واقع للحداثة بغير روح كما لا يوجد معنى بغير مبنى، وفي المقابل يجوز أن توجد روح الحداثة بغير واقعها، وهكذا فالانفصال المقصود هو “افتراق نسبي” فحسب.
واعتبر طه عبد الرحمن أن “النظرية الأخلاقية التي تقول بالانفصال بين واقع الحداثة وروحها تقوم بها إمكانات فكرية وعملية أوسع من النظرية الأخلاقية التي تقول بالالتحام بين هذين الطرفين”، كما أنها تفتح الباب واسعا أمام إيجاد تطبيقات أكثر أخلاقية لروح الحداثة من التطبيقات الغربية اللاأخلاقية لها.
كما أشاد طه عبد الرحمن في تعقيبه على كتاب حلاق بجهد المؤلف في تتبع دقائق مشروعه، وقدرته على نقل أفكاره إلى الإنجليزية، بما في ذلك نقل مصطلحات عربية أصيلة.
ويبدو الكتاب -في إحدى قراءاته- نقاشا بين الشرق والغرب، إذ يتضمن أوجه الاتفاق والتباين بين المفكر والفيلسوف المغربي، والباحث فلسطيني الأصل كندي الجنسية، ويقدم كذلك فرصة للتأمل في التباين بين الخلفية الصوفية واللغوية عند المفكر الموسوعي المغربي في مقابل خلفية دراسة القانون والعلوم الاجتماعية لدى الأكاديمي بجامعة كولومبيا.