قال تعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ* قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾ [هود: 42- 43].
1. ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ :
لا تكون الأمواج في البحر متعالية كالجبال إلا إذا كانت الرياح العاتيات تحركها، فوصف الموج بأنه كالجبال أغنى عن ذكر الرياح العاتيات في الصورة لأن الذهن يستدعيها في التصور من خلال جبال الأمواج، لكن المياه ما زالت دون مستوى الجبال العالية، ولعلها غمرت الوديان، وبدأت ترتفع حتى وصلت إلى المساكن العالية في أواسط الجبال أو قريبة منها.
تدلّنا “وهي تجري بهم في موج كالجبال” على أنها مسيّرة بقدرة الله عز وجل، ولذلك فإن هذه الأمواج التي وصفها الله أنها في علوّها وضخامتها كالجبال، هذه الأمواج التي لا بد أن تغرق أضخم السفن وأقواها لم تفعل شيئاً لسفينة نوح، فلم تضربها بقوة، أو تقلبها أو تضرها على أي شكل من الأشكال، بل إن السفينة تجري – أي تمشي بسرعة عالية- بين أمواج كالجبال، بل إن طريقها الذي رسمه الله تعالى لها ليس فيه موج يعوقها أو يضرها، ولك أن تتخيّل سفينة في بحر هائل بين أمواج كالجبال، كيف يمكن أن تبحر حتى إذا لم تغرقها الأمواج فإنها على الأقل لا تجعلها تسير بسرعة، ولكن سفينة نوح تسير بأمر الله تعالى، فإن هذه الأمواج لا تؤثر فيها.
2. ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾:
-“ونادى نوح ابنه”: وفي هذه اللحظة الرهيبة الحاسمة يبصر نوح، فإذا أحد أبنائه في معزل عنهم وليس معهم، وتستيقظ في كيانه الأبوة الملهوفة، ويروح يهتف بالولد الشارد.
“-وكان في معزل”: كان في مكان حتى تلك اللحظة من المناداة في مكان معزول عن الماء لارتفاعه مثلاً أو غير ذلك.
وهناك من العلماء من يرى أن هذا الابن كان منعزلاً عن أبيه وقومه ويظهر أنه قد كان كاتماً كفره، غير متظاهر به، عصبية لأبيه، إلا أنه كان في باطنه مع عقيدة قومه، ولعل اعتزاله قد كان اعتزالاً توفيقياً، فهو لا يريد أن يَنصر قومه على أبيه، ولا يريد أن يتابع أباه وينصره ضد قومه.
“-يا بني”: وفي نداء نوح عليه السلام لابنه بكلمة «يا بني” فيه تحنّن ورأفة ورحمة وتحبّب وتلطّف وتودّد وتقرّب لو كان هذا يجدي. ولاحظ الادغام في الباء والميم في “اركب معنا” أيّ؛ تفضل بنا واركب في سفينة النجاة مع الناجين من المؤمنين.
-“ولا تكن مع الكافرين” :انظر التلطف في “مع” بدل “من”، فكأنه بهذه الملاطفة يحرك شعوره ليستجيب، وما أجمل أجهزة الاستقبال عند الإنسان شفافة وحساسة وشغالة ومستجاشة، حتى يستجيب لمثل هذه الإشارات، ويتأثر بمثل تلك اللطائف.
“ولا تكن”: الواو عاطفة، نهياً عن أمر: اركب معنا ولا تكن، ولا ناهية، وتكن مضارع مجزوم بحرف النهي، “مع الكافرين”: أي كأنه يقول له برفق شديد: أعيذك أن تكون من الكافرين، فلست منهم بإذن الله، ولكن هذه اللحظة تقف معهم، فلا تكن معهم بل كن من الناجين ومعهم.
ويرى بعض العلماء إن نوحاً قال لابنه: ولا تكن مع الكافرين، ولم يقل له: ولا تكن من الكافرين، فدل هذا على أن نوحاً لم يكن يعلم أن ابنه هذا قد كان كافراً؛ لأنه لو كان يعلم ذلك لكان المناسب أن يقول له: “ولا تكن من الكافرين”، كما قال تعالى بشأن إبليس:
﴿ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 34].
ويخاطب الله الكافر يوم القيامة بمثل ذلك فيقول: ﴿ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر: 59]، “ولا تكن مع الكافرين”: أي: في الدين والانعزال الهالكين.
3. ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾:
إن البنوة العاقة لا تحفل بالأبوة الملهوفة، والفتوة المغرورة لا تقدر مدى الهول الشامل. ويُجيب الابن من معزله البعيد غير مبالٍ يتأثر الوالد وشفقته: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، أيّ: سأعتصم من الطبيعة بالطبيعة، ومهما كان من طغيان الماء، فإن في طبيعة الجبال أعظم معتصم منها، وذلك هو منطق الإلحاد، لا يُبصِّر صاحبه مما هو أمامه إلا وراء أرنبة أنفه، ويصوّر القرآن ردّ الوالد عليه في جملة فيها الأسى والحزن، وفيها منطق الإيمان، يردّ على غرور الجحود والإلحاد.
4. ﴿قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾:
لا عاصم اليوم من أمر الله بالطوفان العام الشامل، إلا من رحمه الله، فجعل له السفينة وسيلة النجاة الوحيدة، لكن ابن نوح لم يستغل هذه الفرصة الأخيرة له؛ لأنه لم يكن من المؤمنين في باطنه، وظل مصرّاً على موقفه.
ولم يطُل الحوار بين الأب وابنه، ولم يعلم نوح من ابنه موقفه من قضيّة الإيمان، إذ حال بينهما الموج فقطع حوارهما، وأخذ الموج الفلك بعيداً إلى العُباب، ولم يستطع الابن أن يسرع إلى جبل شاهق فقد داهمه الماء، فكان من المغرقين.
5. ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾:
إننا بعد آلاف السنين، لنمسك أنفاسنا -ونحن نتابع السياق- والهول يَأخذنا كأننا نشهد المشهد، وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تَحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب.
وإنَّ الهول هنا ليقاس بمداه في النفسِ الحية – بين الوالد والمولود- كما يقاس بمداه في الطبيعة، والموج يطغى على الذرى بعد الوديان، وإنهما لمتكافئان، في الطبيعة الصامته وفي نفس الإنسان، وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن.
ويسدل البيان الإلهي ستاراً على هذا الحوار بين منطق الإيمان وغرور الإلحاد “وحال بينهما الموج فكان من المغرقين.
ولكأني أرى في هذه الجملة الرهيبة صواعق من مظهر الغضب الإلهي وهي تنقض على الجهل المتعالم، والغرور المتطاول تسحقه فإذا هو أثر بعد عين، إن الجملة لتقول بأبين دلالة ما كاد هذا المسكين يتم النطق بكلامه المغرور، وما كاد يطرف ببصره بحثاً عن الجبل الذي يستعصم فيه، حتى أسرعت إليه موجة فالتهمته، وكأن لم يكن.
وبهذه الصورة الحزينة الرهيبة يكتمل مشهد الطوفان حيث عرض القرآن الكريم مشهد الطوفان في ثلاث مشاهد:
أوّلها: سفينة في موج كالجبال.
ثانيها: موج يحول بين نوح وابنه الذي كان في معزل.
ثالثها: الماء المنهمر من أبواب السماء، وهو يلتقي بالماء المتفجر من عيون الأرض.
ويعرض ما بعد هدوء ثورة الماء في ثلاثة مشاهد:
الأول: الأرض تبلع ماءها.
الثاني: السماء ينقشع غيمها.
الثالث: السفينة ترسو على الجوديّ.