مع قرب رمضان الخير، تنشط المواعظ التي تتركز تحت عنوان “الاستعداد لرمضان”، وفي كثير منها مبالغات ما أنزل الله بها من سلطان، ويقابل هذا استعداد آخر بنشاط محموم لصناعة الأفلام والمسلسلات والمسابقات، وكلما تمادى هذا بمبتدعاته وانفتاحاته أمعن ذاك بتشدّداته وانغلاقاته، حتى غدا رمضان عند بعضهم موسماً للهو واللعب، وعند من يقابلهم موسماً للرهبنة والصوامع المغلقة.
أستمع إلى بعض الوعّاظ وهم يتحدّثون عن الاستعداد لرمضان، وكأننا مقبلون على حرب، لا تضيّعوا ولا دقيقة، لا تنشغلوا بالزيارات والدعوات -لا زائراً ولا مزوراً- اقضوا نهاركم بالقرآن، وليلكم بالقيام، وآخر ما سمعته من إحدى الداعيات وهي تحرض النساء: لا تنشغلن بالطبخ والنفخ، ووجبات السحور والفطور! ثم المصيبة أن يقولوا لك: إذا استقمت على هذا في رمضان فإياك أن تنساه بعد رمضان، لأن هذه والعياذ بالله من سمّات عبّاد رمضان!
ليس هذا فقط، المرأة مكروه لها أن تصلي في المسجد، هكذا حدثتني إحدى طالباتي -والعهدة عليها- عن إحدى الواعظات، وزادت: حتى إذا رحتم إلى مكة والمدينة فالصلاة في الفندق أو الشقة خير من صلاتكنّ في المسجد الحرام أو المسجد النبوي!
الواعظ هنا يقتبس بطريقة انتقائية بعض النصوص، ثم يتناولها بطريقة حَرفية ظاهرية إلى أبعد حد، دون أن يلاحظ أي جانب آخر، ليقول للناس: هذا هو الإسلام.
لا أستطيع -صراحة- أن أتخيّل وضع الأسرة بكبارها وصغارها، لو طبّقت مثل هذه المواعظ، كيف تكون العلاقة فيما بينهم؟ وما الصورة التي ستنطبع في أذهان الأطفال عن رمضان؟ ثم كيف سيقضون أوقاتهم إذا كان الكبار غارقين في سباق متواصل لعدّ ختمات القرآن؟
مرّة كنت أعطي درساً في الاستعداد لرمضان فقلت: أنبهكن أخواتي لعبادة تكاد تكون غائبة، وهي عبادة التدبّر، إذ لا يصح أن نختم القرآن مرات ومرات دون أن نحاول فهمه ولو مرة واحدة، فردّت عليّ إحداهنّ: وهل يصح هذا في رمضان يا دكتور؟
نعم أنا أقول لك يا أخي: اغلق جهاز التلفزيون إلا لضرورة أو حاجة، ولا تنشغل بهذا الجهاز الساحر الذي تحمله في جيبك، ولا تكثر من التجوّل في الأسواق، لا أنت ولا أهل بيتك، خصص وقتاً للجلوس معهم، ولو ساعة من ليل أو نهار، واقرأ لهم صفحات من سيرة النبي الكريم -ﷺ- وسيرة أصحابه وزوجاته أمهات المؤمنين، ثم لتكن وجبة الفطور صحية وشهية ومتنوعة، من دون إسراف، واخرج بأهلك وأولادك كل ليلة إلى الصلاة بأحسن ثيابكم، اختر المسجد النظيف، واختر صاحب الصوت الجميل، ولا تسرع بالخروج من المسجد، فهناك صديق لم تره من مدة، وهناك أخ ربما كان بينك وبينه شيء، وهذه فرصة للتسامح وإعادة نسيج المودة، فإذا عدتم إلى البيت فخذوا بالسمر القليل، تحدثوا مثلاً عن المسجد الذي صليتم فيه، وتاريخه، ومن بناه، ثم استعدوا للقيام من غير إرهاق ولا تكلف، هكذا يكون رمضان عبادة وسعادة، صفاء في الروح، وبهجة في القلب، فذلكم هو ديننا الذي ارتضاه الله لنا.
اللهم بلّغنا رمضان، واجعله موسم خير على هذه البلاد الجميلة وكل بلاد المسلمين.