ظهر في عصرنا الذي نعيش فئاتٌ من الناس، يحاولون إنكار حياة البرزخ وعذابه – تحديداً – حيث يزعمون أنّه مخالف لرحمة الله ولطفة في عباده، ويتكلفون في ذلك ردّ الأحاديث التي وردت في هذه المسألة وإثباتها، مع ما يذكرونه بأن هذا هو الموافق للقرآن الكريم، الذي لم يذكر هذه المسألة البتّة، ولم يتكلم عن عذاب قبر أو نعيم فيه، مع العلم أنّ هذه المسألة مما اتفق عليها المسلمون إذ أدلّة نعيم القبر وعذابه ظاهرة بيّنة في القرآن والسنة.
والبرزخ اسمُ ما بينَ الدُّنيا والآخرة من وقتِ الموت إلى البعثِ، قال تعالى: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (سورة المؤمنون: 100) .
وجاءت النصوصُ بإثبات الحياة في البرزخ، وهي حياةٌ تخالِفُ الحياة المعهودة في الدنيا، فالله سبحانه جعل الدُّورَ ثلاثاً: دارَ الدنيا، ودارَ البرزخ، ودارَ القرار، وجعل لكلّ دارٍ أحكاماً تختصُّ بها، وركّبَ هـذا الإنسانَ من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعاً لها… وجعل أحكام البرزخِ على الأرواحِ والأبدانِ تبعاً لها… فإذا كان يومُ حشرِ الأجساد، وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيمُ والعذابُ على الأرواح والأجساد ظاهراً أبدياً أصلاً.
ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ عذابَ القبر ونعيمه، اسمٌ لعذاب البرزخ ونعيمِه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (سورة المؤمنون: 99 ـ 100) .
أولاً ـ الآيات القرآنية الدّالةُ على عذاب القبر
- قال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } (سورة الأنعام: 93) ففي قوله: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} فالآية تبيّنُ المحتضرِ الكافر، وأنّه تأتيه الملائكةُ، وتخبره أنّه سوف يعذَّبُ اليومَ، يعني يومَ موته، وهـذا يدلُّ أنَّ العذابَ يكون قبلَ يوم القيامة، ففي الآية دليلٌ واضحٌ على عذاب القبر، ولو تأخّر عنهم العذابُ إلى انقضاء الدنيا لما صحَّ أن يقال لهم.
- قال تعالى: { وَمِمَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } (سورة التوبة: 101، وقوله تعالى: { سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}: المرّةُ الأُولى في الدنيا من المصائبِ في النفس أو المالِ أو الولدِ أو غير ، وأمّا المرةُ الثانيةُ ففي القبرِ، وأمّا عذابُ الآخرة فذكره بقوله: { ثم يردون إلى عذاب عظيم}.
- قال تعالى: { فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ *النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } (سورة غافر: 45 ـ 46) وهـذا النصُّ من النصوص الصريحةِ في عذاب القبر، فإنَّ هـذا العذابَ الذي حصل لالِ فرعون إنّما كانَ بعدَ موتهم، وأمّا عذابُ الآخرة فهو المذكورُ بعدَه بقوله: { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}.
- قال تعالى: { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [سورة السجدة: 21] وقد احتجَّ جماعةٌ منهم عبد الله بن عباس بهـذه الآية على عذابِ القبرِ، فإنّه سبحانه أخبرَ أنَّ له فيهم عذابين: أدنى وأكبر، فأخبرَ أنّه يذيقُهم بها بعد عذابَ الدنيا، ولهذا قال: يعني به عذاب القبر.
- قال تعالى: { كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } (سورة الطور: 45 ـ 47) عن قتادةَ أنَّ ابنَ عباسٍ كان يقول: إنّكم لتجدون عذابَ القبرِ في كتاب الله.
- قال تعالى: { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ } (سورة التكاثر: 1 ـ 2) فيها الحديثُ عن عذابِ القبرِ.
- قال تعالى: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } (سورة نوح: 25)، وقوله تعالى: {فَأُدْخِلُوا نَارًا } بعد ، وهـذا يدلُّ على عذاب القبر.
ثانياً: مستقر الأرواح في البرزخ
تتفاوتُ أرواحُ العبادِ في البرزخ في منازلها، ومن خلال دراسةِ النصوص الواردةِ في ذلك يمكنُ التقسيمُ التالي:
1 ـ أرواح الأنبياء:
وهـذه تكونُ في خيرِ المنازلِ في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وقد سمعتْ السيدةُ عائشة الرسولَ (ﷺ) في اخرِ لحظاتِ حياته يقول: « اللهمَّ الرفيقَ الأعلى».
2 ـ أرواح الشهداء:
قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [سورة آل عمران: 169] وأرواحُهم في أجوافِ طيرٍ خُضْرٍ لها قناديلُ معلّقةٌ بالعرش، تسرحُ من الجنةِ حيثُ شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل.
3 ـ أرواحُ المؤمنين الصالحين:
تكونُ طيوراً تعلّق في شجرِ الجنّةِ، قال رسول الله (ﷺ): « إنّما نسمةُ المسلمِ طيرٌ يعلّقُ في شجرِ الجنةِ، حتى يرجعَها اللهُ إلى جسدِهِ إلى يومِ القيامةِ»
والفرقُ بين أرواحِ المؤمنين وأرواحِ الشهداءِ، أنَّ الشهداءَ في حواصلِ طيرٍ خُضْرٍ تسرحُ متنقلةً في رياض الجنة، وتأوي إلى قناديلَ معلّقةٍ في العرش، أمّا أرواحُ المؤمنينَ، فإنّها في أجوافِ طيرٍ يعلّق في ثمرِ الجنةِ، ولا ينتقل في أرجائها.
4 ـ أرواح العصاة:
سبق وأنْ ذكرتُ بعضَ النصوصِ التي تبيِّنُ ما يلاقيه العصاةُ من العذاب، فمن ذلك أنَّ الذي يكذِبُ الكذبةَ تبلغُ الافاقَ، يعذَّبُ بكلوبٍ من حديدٍ، يدخلُ في شِدْقِهِ حتى يبلغَ قفاه، والذي نامَ عن الصلاةِ المكتوبةِ يُشْدَخُ رأسُه بصخرةٍ، والزناة والزَّوَانِي يعذَّبونَ في ثُقْبٍ مثل التنورِ، ضيِّقٌ أعلاه، وأسفلُه واسعٌ، تُوْقَدُ النارُ تحته، والمرابي يَسْبَحُ في بحرٍ من الدمِ، وعلى الشطِّ مَنْ يلقمُه الحجارةَ.
وقد ذكرنا الأحاديث التي تتحدّث عن عذاب الذي لم يكن يستنزه من بوله، والذي يمشي بالنميمة بين الناس، والذي غلَّ من الغنيمة ونحو ذلك.
5 ـ أرواحُ الكفّار:
في حديث رسول الله (ﷺ) بعدما وصفَ حالَ المؤمنِ إلى أن يبلغَ مستقرّه في الجنةِ، ذكر حال الكافر، وما يلاقيه عند النزع، وبعد أن تُقْبَضَ روحُه، تخرجُ منه كأنتن ريح، حتى يأتونَ به بابَ الأرضِ، فيقولن: ما أنتنَ هـذه الريح حتى يأتونَ به أرواحَ الكفّار.
إنَّ حياة البرزخ – بنعيمه وعذابه – هي حقيقة سيعيشها كل أحد، وهي تدخل في عموم الأدلة المستفيضة ذات الدلالة الواضحة التي لا تقبل تشكيكا أو تحريفا.
والمؤمن الحق، هو الذي يؤمن بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، ويدع أصحاب الأهواء الذين يُخضعون الوحي – قرآنا وسنة – لأهوائهم وأقيستهم الفاسدة، وعقولهم القاصرة – مع التأكيد على أنه لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح كما قرر العلماء الأجلّاء – (رحمهم الله تعالى)، ولكن الأقيسة إذا فسدت، والقلوب إذا مرضت أتى أصحابها بالعجائب، والله المتسعان.