وصف الله تعالى النبي
ﷺ بالخلق الحسن ثم نوه إلى خصلة الرأفة والرحمة من بين خصال النبي
ﷺ، وذلك في آيات كثيرة ومواقف متعددة، ومن أهمها وصف النبي بالرفق بالمؤمنين والرأفة بهم في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، والرأفة أخص من الرحمة، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة، وتنشأ مع حدوث الضر بالمرؤوف، وأما الرحمة فهي صفة شاملة عامة مع حال الضعف وغيره، وهذا إشارة إلى حرص النبي
ﷺ بهداية المؤمنين والإرفاق بهم في مقام التشريع، ورفع الحرج والمشقة عنهم، والرأفة والرحمة هما صفتان ثابتتان في خلق النبي
ﷺ. وأثر الرأفة والرحمة يغلب على النبي
ﷺ في جميع تصرفاته مع المؤمنين، وكان من المواقف التي تشهد على هذا الأمر، حديث قيام رمضان في صلاة التراويح، فإننا نرى العجب حين نتوقف على هذه الشعيرة الملازمة لصيام رمضان، وقد جاء في الصحيح: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وكان الرسول
ﷺ يرغِّب فيه كما قال
أبو هريرة رضي الله عنه، وكان صلاها بالناس في جماعة ثلاث ليال بقين من رمضان، ثم امتنع عن الناس خشية أن يفرض عليهم، فيضعف الناس عن أداء هذه السنة، فيأثم المتخلف، وهنا يغلب عليه الصلاة والسلام الرحمة والشفقة بالمؤمنين. قالت عائشة: “صلى النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد ذات ليلة، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة، وكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم ـ قال: وذلك في رمضان. [متفق عليه] وجاء في رواية عند البخاري أن النبي
ﷺ خطب الناس حين اجتمعوا الليلة الرابعة وعجز المسجد عن أهله، قال: “أما بعد، فإنه لم يخف علي شأنكم ولكني خشيت أن يفرض عليكم فتعجزوا عنها[1]. إذن امتنع النبي
ﷺ من أداء صلاة التراويح جماعة مع المؤمنين في المدينة رأفة بهم وشفقة لهم حتى لا تفرض الصلاة على الناس فيعجزوا عن أدائها، وحين توفي الرسول
ﷺ وانقطع الوحي، فهم الصحابة رضوان الله عليهم علة هذا التصرف، وأنها تنتفي بانتفاء سببها، لذلك استفاض من الصحابة رضوان الله عليهم صلاة التراويح في رمضان في جماعة لا سيما مع جمع عمر رضي الله عنه المصلين خلف إمام واحد. ويدل على موافقة الصحابة لموقف عمر رضي الله عنه ما يأتي:
- عن نوفل بن إياس الهذلي قال: ” كنا نقوم في عهد عمر بن الخطاب فرقا في رمضان في المسجد إلى هاهنا وهاهنا فكان الناس يميلون على أحسنهم صوتا، فقال عمر: ” ألا أراهم قد اتخذوا القرآن أغاني، أما والله لئن استطعت لأغيرن هذا قال: فلم يلبث إلا ثلاث ليال حتى أمر أبي بن كعب، فصلى بهم، ثم قام في مؤخر الصفوف فقال: «إن كانت هذه بدعة لنعمت البدعة»[2]. وروى مثله عدد من التابعين الذين شهدوا الحدث منهم عروة بن الزبير، والسائب بن يزيد، وعبد الرحمن الأعرج وغيرهم.
- وروى عروة: أن عمر بن الخطاب، «أمر أبي بن كعب أن يصلي بالرجال في شهر رمضان».
- وقال عطاء: أن القيام كان على عهد رسول الله – ﷺ – في رمضان، يقوم النفر، والرجل كذلك هاهنا والنفر وراء الرجل، فكان عمر أول من جمع الناس على قارئ واحد
- أما في مكة، عن ابن جريج قال: حدثت أن أول من قام بأهل مكة في خلافة عمر بن الخطاب زيد بن قنفذ بن زيد بن جدعان، وكان من شاء قام معه، ومن شاء قام لنفسه، ومن شاء طاف.
وهذه الآثار تدل على أن الصحابة وافقوا عمر على هذا الاختيار، قال أبو المطرف: وفي جمع عمر بن الخطاب الناس في قيام رمضان على إمام واحد من الفقه: نظر الإمام لرعيته في جمع كلمتهم، وما يصلح في معادهم[3]. وذكر ابن بطال: وفيه أن اجتهاد الإمام ورأيه فى السنن مسموع منه مؤتمر له فيه، كما ائتمر الصحابة لعمر فى جمعهم على قارئ واحد؛ لأن طاعتهم لاجتهاده واستنباطه طاعة[4].
إني خشيت أن يفرض عليكم
حين امتنع النبي
ﷺ من أداء
صلاة التراويح جماعة مع الصحابة، قال: “فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم فتعجزوا عنها. وهذا القول يعد تعليلا للترك، وقد أخبر عليه السلام بالعلة التى منعته من الخروج إليهم، وهى خشية أن يفترض عليهم، وكان بالمؤمنين رحيما، فلما أمن عمر أن تفترض عليهم فى زمانه لانقطاع الوحى؛ أقام هذه السنة وأحياها، وذلك سنة أربع عشرة من الهجرة فى صدر خلافته. قال المهلب: وفيه أن الأعمال إذا تركت لعلة، وزالت العلة أنه لا بأس بأعادة العمل، كما أمر عمر صلاة الليل فى رمضان بالجماعة. أما مكانة خوفه
ﷺ على أمته أن يفرض عليهم فإنه ينصرف إلى وجوب القيام على أمته كما كان أمرا واجبا على النبي
ﷺ، فقد كان رفع الوجوب عن الأمة فيعود بالتزامهم معه. ومن أوجه بيان هذه الخشية ما ذكره بعض شراح الحديث منهم:
- ابن بطال قال: يحتمل أن هذا القول صدر منه – ﷺ – لما كان قيام الليل فرضا عليه دون أمته فخشي إن خرج إليهم والتزموه معه أن يسوي بينهم وبينه في حكمه لأن أصل الشرع المساواة بين النبي وأمته في العبادة.
- ويحتمل أنه خشي من مواظبتهم عليها أن يضعفوا عنها فيعصي تاركها بترك اتباعه – ﷺ -.
- قال القاضي أبو بكر: يحتمل أن يكون أوحى الله إليه أنه إن واصل الصلاة معهم فرضها عليهم، ويحتمل أنه – ﷺ – ظن أن ذلك سيفرض عليهم لما جرت عادته بأن ما داوم عليه على وجه الاجتماع فرض على أمته.
- ويحتمل أن يريد بذلك أنه خاف أن يظن أحد من أمته بعده إذا داوم عليها وجوبها، وإلى الثالث نحا القرطبي فقال: قوله أن يفرض عليكم أي تظنونه فرضا فيجب من ظن ذلك كما إذا ظن المجتهد حل شيء أو حرمته فيجب عليه العمل به، وقيل: كان حكمه – ﷺ – إذا واظب على شيء من الأعمال واقتدى الناس به فيه أنه يفرض عليهم.
- قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر الأجوبة المختلفة من العلماء، فقال: وحديث «هن خمس وهن خمسون» لا يبدل القول لدي يدفع في صدور هذه الأجوبة كلها، وقد فتح الباري بثلاثة أجوبة سواها:
أحدها: أنه خاف جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: ” «خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم» “. فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقا عليهم من اشتراطه، وأمن مع إذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم.
ثانيها: أنه خاف افتراضه كفاية لا عينا فلا يكون زائدا على الخمس بل هو نظير ما ذهب إليه قوم في العيد ونحوها.
ثالثها: أنه خاف فرض قيام رمضان خاصة كما قال. يثبت من جميع ذللك أن شفقة النبي
ﷺ بالمؤمنين في صلاة التراويح ليالي رمضان تتمثل في بقائها سنة من السنن المؤكدة الملازمة لأعمال شهر رمضان، فمن صلاها في جماعة بعد يكتب له أجر ذلك كما في حديث
أبي ذر الغفاري: (من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة)، ومن صلاها منفردا في بيته وقع له كذلك أجر قيام رمضان.
[1] صحيح البخاري (882) وصحيح مسلم (178).
[2] الصيام للفريابي (172).
[3] «تفسير الموطأ للقنازعي» (1/ 172).
[4] «شرح صحيح البخاري – ابن بطال» (4/ 146).