في مداخلة هاتفية بين أحد المسؤلين وأحد مقدمي البرامج الحوارية كان موضوع المداخلة نقد للأداء الحكومي قال الوزير للمذيع: هناك جوانب إيجابية لماذا لا تتحدث عنها؟! فقال المذيع سيدي الوزير: عندك إعلام حكومي يمكنك أن تصطحبه أينما توجهت ليتحدث عنك وعن إنجازاتك فصمت الوزير!!
وكان من الواجب عليه أن يرد: ينبغي أن تنظر بعينك وتنقل ما وجدت من جوانب إيجابية أو سلبية أما أن ترى الحبة قبة إذا كانت الحبة في الجانب السلبي وتغمض عينك عن كل ما هو إيجابي فهذا مخالف للحقيقة ومجاف لمواثيق الشرف.
وبالرجوع إلى قواميس اللغة نجدها تقول: نقد النقّاد الدراهم. ميّز جيدها من رديئها [أساس البلاغة]
فعمل الناقد بيان السلبي والإيجابي وليس الاقتصار على واحد منهما
وإذا نهى الله تعالى عن بخس الناس أشياءهم فكيف نبخسهم آراءهم وأعمالهم –ع ندما نهمل الإيجابي منها – والرأي عند صاحبه أغلى ما يملك
1- سوق رائجة: ولعل من الملاحظ رواج سواق النقد اللاذع الذي يخرج عن حد البحث عن الحقيقة إلى البحث عن المثالب والزلات أو اختلاقها ومن الممكن تفسير ذلك بشعور البعض بالنقص والعجز عن الوصول إلى هذا المكانة المرموقة التي وصل لها الشخص المنقود ومن قبول لأفكاره فعندما لا يصل البعض إلى هذا المستوى يسارع بهدم صروح الآخرين التي أقاموها بالجهد والعمل الدؤوب ليتساوى الجميع في الضعة بعد أن عجز هؤلاء النقاد عن ارتقاء مدارج العزة.
ومما يدل على سوء الخلق وفساد الضمير سرور البعض بالسب والتجريح الذي يخالط النقد وتمني البعض أن لو كان لهم صوت مسموع او أتيح لهم المجال لشاركوا هذا الناقد الذي تجاوز حدود الإنصاف ببعيد وحاول بنقده السلبي أن يطوي كل حسنة في غمار ما يذكره من قدح للعمل المنقود وللعامل
إن هذه الطريقة في النقد ينبغي أن تلقى منا كل استهجان واستنكار حتى يضطر أصحابها إلى تركها عندما يكسد سوقها ولاتجد من يفرح بها أو يشجعها
2- النقد بين الخوف والمواجهة:ولحب النفوس للنقد عملا وسماعا وتداولا تجد البعض يخشى الانتقاد ومن ثم يقف مكانه لا يحرك ساكنا ويرى ذلك أفضل الطرق للسلامة من ألسنة الناس التي لم يسلم منها رب البشر وانبيائه صلوات الله عليهم:
قالوا الإله ذو ولد قالوا النبي قد كهنا
إذا كان الإله والنبي لم يسلما من الورا فكيف أنا
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله:” ترْكُ الْعَمَلِ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللهُ عَنْهُمَا “[ شعب الإيمان]
ومن عرض عقله على الناس بإبداء رأي في مسألة من المسائل أو اتخاذ قرار في قضية من القضايا أو الدفاع عن موقف قوم في مقابل بقية المواقف فليستعد لسماع ما يحب وما يكره قال العتابي: من صَنَع كتاباً فقدِ اسْتَشْرَف للمدح والذَّمّ، فإن أحسن فقدِ اسْتُهْدِف الحَسَد والغِيْبة، وإن أساء فقد تَعرَّض للشَّتْم واسْتُقْذِف بكلِّ لسان. [الجامع لأخلاق الرواي وآداب السامع]
وقد يضيق المرء ذرعا بالنقض الذي لا يراعي فيه صاحبه حرمة وقد يكون في انتقاده سببا لذيوع رأيه وتداوله بين أولي الألباب
وَإذَا أَرَادَ اللهُ نَشْرَ فَضِيلَةٍ … طُوِيَتْ أَتَاحَ لَهَا لِسَانَ حَسُودِ
لَوْلاَ اشْتِعَالُ النَّارِ فِيما جَاوَرَتْ … مَا كَانَ يُعْرَفُ طِيبُ عَرْفِ الْعُودِ [المثل السائر]
3- النقد السطحي: وكثيرا ما تلهي المظاهر عن الجواهر في النقد، دخل النّخار العذري على معاوية في عباءة، فاحتقره معاوية، فرأى ذلك النّخار في وجهه فقال: يا أمير المؤمنين ليست العباءة تكلمك، إنما يكلمك من فيها، ثم تكلم فملأ سمعه ولم يسأله (لم يطلب منه مالا أو غيره)، فقال معاوية: ما رأيت رجلاً أحقر أولاً ولا أجل آخراً منه.[ التذكرة الحمدونية]
4- النقد بين الرفق والشدة: تتفاوت حالة النقد شدة ولينا حسب من ينقد وما ينقد، انتقد النبي ﷺ تصرف أبي ذر مع خادمه حين قال له:” ياابن السوداء” فقال له رسول الله ﷺ :”إنك امرؤ فيك جاهلية” وهي كلمة شديدة؛ لمكانة أبي ذر في الإسلام، ولفظاعة الكلمة فأحد المحرمات الشديدة في الإسلام التنابز بالألقاب.
5- نموذج للنقد الإيجابي: ومع أن الإنصاف عزيز إلا أنه موجود يقول الإمام الذهبي عن الإمام بن حزم: أعرض عَنْ تَصَانِيْفه جَمَاعَةٌ مِنَ الأَئِمَّةِ، وَهَجَرُوهَا، وَنفرُوا مِنْهَا، وَأُحرقت فِي وَقت، وَاعْتَنَى بِهَا آخرُوْنَ مِنَ العُلَمَاءِ، وَفَتَّشوهَا انتقَاداً وَاسْتفَادَة، وَأَخذاً وَمُؤَاخذَة، وَرَأَوا فِيْهَا الدُّرَّ الثّمِينَ ممزوجاً فِي الرَّصْفِ بِالخَرَزِ المَهين، فَتَارَةٌ يَطربُوْنَ، وَمرَّةً يُعجبُوْنَ، وَمِنْ تَفَرُّدِهِ يهزؤُون.
وَفِي الجُمْلَةِ فَالكَمَالُ عزِيز، وَكُلُّ أَحَد يُؤْخَذ مِنْ قَوْله وَيُتْرَك، إِلاَّ رَسُوْل اللهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – .
وَكَانَ يَنهض بعلُوْمٍ جَمَّة، وَيُجيد النَّقل، وَيُحْسِنُ النّظم وَالنثر.
وَفِيْهِ دِينٌ وَخير، وَمقَاصدُهُ جمِيْلَة، وَمُصَنّفَاتُهُ مُفِيدَة، وَقَدْ زهد فِي الرِّئَاسَة، وَلَزِمَ مَنْزِله مُكِبّاً عَلَى العِلْم، فَلاَ نغلو فِيْهِ، وَلاَ نَجْفو عَنْهُ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ قَبْلنَا الكِبَارُ. [سير أعلام النبلاء] نجد الإمام الذهبي رحمه الله يقدم نموذجا للنقد البناء ينبغي أن يحتذى به حيث يذكر المزايا والعيوب ويلتمس الأعذار
6– التربية على النقد البناء: إذا كان توجيه النقد طبيعة بشرية وهو في ذات الوقت حاجة إنسانية لتصحيح المسار وتقويم الاعوجاج وسد الخلل فينبغي ان تشتمل المناهج الدراسية على مبادئ التفكير النقدي وأن يربى النشء على آليات النقد وآدابه حتى نصل إلى مستوى من النقد يصوب المسار
7-النقد السئ دَيْن واجب القضاء: وهناك من يسلق المؤمنين بألسنة حداد فيخشى الناس بأسه ويثنون عليه اتقاء فحشه وهؤلاء هم شرار الناس الذين قال عنهم النبي ﷺ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ ، أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ – اتِّقَاءَ فُحْشِهِ[صحيح البخاري].ثم هؤلاء المشجعين له اليوم سينالهم في الغد أو بعد الغد شئ من الشرر الذي ينال جليس نافخ الكير، ولا يفرح أهل البذاءة الذي يخلطون سواد قلوبهم بما يدّعونه من نقد بما يلقون من إعجاب فألسنة المعجبين تمدحهم وقلوبهم تلعنهم وسيأتي عليهم اليوم الذي يشربون من نفس الكأس
8- مهما كان النقد منصفا لا ينبغي للناقد أن يظن أن نقده سيلقى – في الغالب – قبولا ممن ينقده فعليه أن يقصد بنقده وجه الله تعالى وحده ولا يكترث بما سيقوله الناس من استحسان أو استهجان.
9- على من يتصدر للنقد أن يعلم أنه يجلس على منصة من منصات القضاء فينبغي أن يكون عالما بالقانون وبموضوع القضية التي يفصل فيها وأن يتجرد من الهوى الذي يعمي ويصم وإلا ظلم نفسه وظلم من ينقده وظلم الحقيقة معه والله لا يحب الظالمين وأن يكون كالطبيب الماهر الذي يحدد موضع الداء لا يزيد عليه ولا ينقص وغرضه صحة المريض لا هلاكه.
10-النقد السلبي قد يدفع إلى الانسحاب من الحياة إن كان من يُنقد طري العود لين العريكة أو يؤدي إلى الوقاحة في الرد إن كان من يُنقد سيئا شريرا.
11- القسوة في النقد والتعقيب: هل يلزم أن تقابل قسوة النقد بقسوة التعقيب؟ فننتقل من مخاشنة في القول إلى هجر تترتب عليه خسارة للحركة العلمية والفكرية وفرقة بين الأخوة، وهل من الممكن أن نجد الحكماء الذين يصلحون ما أفسده الهوى والشيطان؟ ليحولوا بين فرسان الميدان الواحد وبين الشتات ولتبقى أواصر الأخوة ووحدة الهدف والمصير أعظم من حظ النفس وأبقى من كلمة ندت عن حدود النصح او انحرفت عن جادة اللياقة.
12- هل ننتظر من الناقد الذي تبين خطأه أن يبادر بإعلان اعتذاره ورجوعه إلى الحق؟
أيها الناقص أعمال الورى … هل أريت الناس ماذا تعمل؟
لا تقل عن عمل: ذا ناقص … جيء بأوفى ثم قل: ذا أكمل
إن يغب عن عين سارٍ قمر … فحرام أن يعاب المشعل [مجلة الرسالة]
في عالم المال العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة وفي عالم الحق والباطل يقول الله تعالى {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]