بداية نعتذر عن هذا العنوان المؤسف والصادم، فهو ليس من خيال الكاتب، ولا من صناعة مجلس التحرير، ولكنه توصيف لواقع أليم، كتب الله علينا أن نتجرع مرارته، صابرين محتسبين راضين بقضائه، ولسان حالنا ” قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” (التوبة: 51)
فمن القضايا الفقهية التي صاحبت ظهور هذا الوباء ما يتعلق بحقوق المسلم بعد موته من وجوب تغسيله وتكفينه والصلاة عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، وهذا من الأومر المعلومة من الدين بالضرورة، لكن انتشار هذا الوباء في شتى بقاع الأرض، قد أفرز واقعا لم يعهده الناس من قبل في التعامل مع موتاهم –حتى في أوقات الحروب-، وهذا الواقع هو أنه في كثير من الأحيان يُحَال بين من مات بهذا الوباء وبين أهله، فلا يتسنى لهم استلام جثامين موتاهم، حيث تقوم الدولة غالبا بالإشراف على دفنهم؛ وتمنع أهل الموتى من أن يقربوا موتاهم، وهو من جملة الإجراءات الاحترازية المفروضة ؛ لتجنب انتشار هذا الوباء، وهذا الواقع قام الكاتب بمتابعته ورصده من خلال واقع المسلمين الذين يعيشون في أوروبا، ولم يتسن لنا الوقوف على تفاصيل كيفية التعامل مع من قضوا نحبهم جراء الإصابة بهذا الفيروس في البلاد العربية والإسلامية، من حيث قيام الدولة بالإجراءات الشرعية اللازمة مع موتى المسلمين، وإن كان الحكم الشرعي الذي سيأتي بيانه لن يختلف فمن مات بهذا الوباء في أوروبا ومن مات في بلد الله الحرام كلاهما سواء، فالمخاطر التي قد تلحق من يتعامل مع جثمان الميت بهذا الوباء من أجل تغسيله وتكفينه ودفنه لن تختلف باختلاف المكان.
والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته الطـارئـة الثـلاثـيـن المنعقدة بتقنية (ZOOM) التواصلية في الفترة من 1 إلى 4 شعبان 1441هـ، الموافق له 25-28 مارس (آذار) 2020م، تحت عنوان: “المستجدّات الفقهيّة لنازلة فيروس كورونا كوفيد 19” قد ناقش جملة من القضايا، وكان من بينها هذا الموضوع الذي نحن بصدده، فقد ورد للمجلس السؤال التالي:
لا يخفى ما تمرّ به البشريّة اليوم من جرّاء تفشي وباء كورونا المستجد من كثرة الأمراض والأموات وما ترتب على انتشاره من قوانين وإجراءات ،كادت الحياة معها أن تتوقف ،حيث أغلقت الدول حدودها، والمواصلات انخفضت إلى أدنى حدودها أو انقطعت ، والمستشفيات امتلأت بالمصابين حتى أصبحت غرف العناية المركّزة لا تكفى للمرضى، ولا تكفى الأمكنة المخصّصة لأعمال الجنائز في بعض المدن، ما اضطر العلماء والمجامع الفقهية إلى إصدار الفتاوى لهذه الحالة الطارئة مثل إيقاف العبادة الجماعيّة بما فيها صلاة الجمعة لحفظ أرواح الناس، وفى هذه الظروف الطارئة وبسبب كثرة الوفيات وخطورة عدوى الوباء، فإنه لن يتمكن المسلمون من التعامل مع جنائزهم وموتاهم بالطريقة الأكمل والأمثل المعروفة في الأحوال المعتادة، فكيف يتعامل المسلمون مع موتاهم تغسيلًا وتكفينًا وصلاةً ودفنًا؟
وبعد مناقشات مستفيضة جاء الجواب على النحو التالي:
الفتوى – كما هو معلوم – تتغيّر بتغير الزمان والمكان والظروف والأحوال، وقد تقرّرت في فقهنا الإسلامي جملةٌ من القواعد التي تراعي الظروف الاستثنائية وحالات الضرورة، ومنها: (الضرورات تبيح المحظورات)، (المشقة تجلب التيسير)، (لا تكليف إلا بمقدور)، وهذه القواعد كلّها ونظائرها وفروعها، إنما بُنيتْ على استقراء نصوص الوحي، ومن ذلك قول الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقوله ﷺ: (يَسِّرُوا وَلا تُعَسِّرُوا) وغير ذلك من النصوص الكثيرة، ومن هنا فإنّنا ومع تأكيد ضرورة الالتزام بالقوانين والتعليمات الصادرة عن الدولة والجهات المعنية، نلخص الأجوبة عن أهم الأسئلة المطروحة في باب الجنائز وأحكامها في ظل هذا الوضع الحرج، في النقاط الآتية:
أولًا: بالنسبة لغسل المتوفَّى من المصابين بهذا المرض فإنّ المجلس بعد نقاشات مستفيضة وسؤال الأطباء العاملين في مناطق الوباء، انتهى إلى ترجيح دفن الميت المصاب بداء كورونا بالكيس وفي التابوت الذي خرج به من المشفى، دون تغسيل أو تيمم حتى إن سُمح به قانونًا وذلك لما يلي:
إنّ تغسيل الميّت المسلم على اختلاف بين الفقهاء في حكمه، فجمهورهم على الوجوب، وفي قول عند المالكية والحنفية أنّه سنة مؤكدة، وهو خلافٌ معتبر، وسببه: أنّ الغسل نُقل بالعمل لا بالقول، والعمل ليس له صيغة تُفهِم الوجوب، أولا تُفهمه، كما أنّه ورد على سبيل التعليم له، لا الأمر به، والراجح هو وجوب الغسل لكنّه لا يُقدر عليه إلا في الأحوال الطبيعيّة، أمّا في الأحوال الاستثنائيّة كأوقات الأوبئة والطواعين فيجوز ترك التغسيل والتيمم.
المعلوم اليوم لدى الأوساط الصحيّة أنّ التغسيل أو التيميم مع أخذ الاحتياطات الوقائية للمُغسِّل لا ينفي عنه خطر العدوى، خصوصًا أنّ الأخذ بشروط الوقاية للمغسل يحتاج إلى تدريب وخبرة غير مقدور عليها الآن، وإذا كانت الطواقم الطبيّة يتعرّض أعضاؤها للعدوى رغم تدريبها ومبالغتها في التحوط من الإصابة، فكيف بمغسِّل لا يمتلك هذه الخبرة ويتصل بالميّت اتصالًا مباشرًا؟!
إنّ القواعد الفقهيّة والنصوص الشرعيّة تدل على أنّ المحافظة على حياة الحيّ الصحيح تقدّم على إقامة السنّة أو الواجب في حق الميّت، ويكفي في الأحكام اعتبار غلبة الظن المتمثل في انتقال العدوى للمغسل ثم انتقالها منه لغيره.
هذا وينبّه المجلس إلى أنّ الميّت في هذا الوباء إذا دُفن على تلك الصفة لا ينقص من أجره شيئًا، وتبرأ ذمة المسلمين وأهله شرعًا بما فعلوا، وقد دلَّت النصوص على أنّه بمنزلة الشهيد عند الله. قال النبي ﷺ:” فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ” رواه البخاري.
ثانيًا: الصلاة على الميّت فرض كفاية عند الجمهور، إذا قام بها بعضهم سقط وجوبها عن بقيّة المكلفين، ويكفي أن يصلّي عليه من يسمح لهم القانون حتى لو كانوا ثلاثة، بل ذهب بعض العلماء إلى أنّ الوجوب يسقط بصلاة المكلف من الرجال، كما هو عند الحنفية والشافعية والحنابلة.
ويمكن لمن شاء من المسلمين أن يصلي عليه صلاة الغائب ولو فرادى، فقد ذكر بعض الشافعية والحنابلة جواز الصلاة على الميّت (صلاة الغائب) إذا شقّ حضور الصلاة عليه، والصلاة في هذه الحالة من باب أولى، لتعذر الحضور .
ثالثًا: أمّا الدفن، فإنّ الأصل فيه أن يدفن المسلم في المكان الذي يموت فيه، فقد دفن الصحابة رضي الله عنهم في الأماكن التي ماتوا فيها، والأصل كذلك أن يدفن المسلم في المقابر الخاصّة بالمسلمين؛ فإن لم يتيسّر فيدفن حيث أمكن ولو في مقابر غير المسلمين؛ إذ لا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها، ولا يضرّ المسلم في حالة كهذه أن يدفن في مقابر غير المسلمين، فإنّ الذي ينفعه في آخرته هو عمله وليس موضع دفنه. قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وكما قال سيدنا سلمان رضي الله عنه: (الأرض لا تقدس أحدًا) رواه مالك في الموطأ .