يحتاج المصلح والداعية بجانب علمه الشرعي والديني إلى الانفتاح على عطاءات العلوم الإنسانية، فلا يكفي أن يكون الداعية حافظا للمتون صائحا بها فوق المنبر، ولكن يحتاج أن يُلم بعلم النفس والتنمية البشرية والمعارف الحديثة التي تراكمت لفهم الشخصية الإنسانية والتأثير فيها، وإلا ظل الداعية جاهلا بعصره وغير مُجيد لمخاطبته، فينسحب ضعفه على ما يدعو إليه بعدما تجاهل قوله تعالى”وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ”[1].
فاللسان لا ينصرف إلى اللغة فقط ولكن يتعداها إلى القدرة على مخاطبة الناس، فاللسان معبر تمر عليه الأفكار والقيم، وبدونه يختل ميزان الدعوة، وتقع القطيعة بين “أمة الدعوة” و”أمة الإجابة”.
وفي هذا الإطار يأتي كتاب “قواعد الحزم: دليلك إلى القيادة الحازمة” تأليف إدريس أُوهلال، والصادر في طبعته الأولى 2019 في 331 صفحة، عن مجموعة الأكاديميات الدولية. الكتاب يتكون من مقدمة وخمسة فصول، كخطوة تساهم في رفع فن القيادة الحازمة وتحويلها من موهبة إلى علم له نظرياته وقواعده، الكتاب تحدث عن خمس إشكالات على القائد الحازم أن يتقن الإجابة عليها تتعلق بالإرادة والمعرفة والقدرة والقيم والفعل، وهي خماسية تحتاج إلى توازن بينها، وكما يقول الشاعر الأموي “دعبل الخزاعي:
تنافسَ فيهِ الحزم والبأسُ والتُّقى ..وبَذلُ اللُّها، حتَّى اصْطَبَحْنَ ضَرَائِرا
القيادة في رأي الأديب والدبلوماسي غازي القصيبي “مكان لا يُعطى؛ بل ينتزع بالطموح والإصرار, وبتلويث الساعدين بغبار المعضلات, وتبليل القدمين بغبار الأزمات“، وربما أول شيء في فن القيادة الحازمة هو أن طريق النجاح ليس واحدا، ولكنه متنوع، ومن الضروري أن توصل الطريق إلى الهدف والغاية، فمواجهة الحقائق بقوة يمنح المؤسسات أعمارا إضافية، والقيادة الحازمة تقف في منطقة وسط بين رذيلتين، بين العنف والمكر، وبين الطيبة والسذاجة، لكن تظل القيادات العنيفة الماكرة هي الأشد جذبا للمتطلعين إلى سلم القيادة، فكثير من النجاحات حققها اللجوء إلى العنف والاستعانة بالمكر والخديعة للوصول إلى الهدف، لكن كيف يكون القائد حازما دون أن يفقد منظومة الأخلاق والقيم؟ لا شك أن ذلك موقفا صعبا يتطلب قدرات ومواهب عالية، وعلما واسعا ممزوجا بخبرات حياتية متنوعة، وكما يؤكد الأديب “نجيب الكيلاني” في روايته ” “إعترافات عبد المتجلي” “يبدو أن السعادة لا تتحقق إلا إذا خالطها قدر ولو قليل من الحزم…إنه ملح السعادة”، فالحزم ملح السعادة وملح النجاح أيضا.
ورغم أن المكر والعنف سيطر على منظري القيادة حتى باتوا لا يرون قائدا غير قادر على العنف أو لا يجيد المكر والخديعة، ويلاحظ أن تجارب الحياة تؤكد أن القيادة الفعالة الناجحة غير ممكنة أخلاقيا إلا بتوافرالحزم، والقائد الحازم هو من يجمع بين صفات الهدوء والحيوية والضبط، مع غياب العنف والمكر والطيبة الساذجة، ومن ثم فليس هناك إجبار على الاختيار بين رذيلتين، لذا فنقطة البداية الصحيحة تكفل أن يسير الإنسان في الطريق الصحيح، ومن صحت بدايته ستصح نهايته.
الإرادة..كيف أكون؟
تناول هذا الفصل الأبعاد الإدارية في القيادة، مستعرضا (19) قاعدة من قواعد الحزم، تجمع بين “كن ولا تكن” أي التخلي والتحلي، منها: كُن محبا لذاتك مطورا لها، كُن مستقلا في عقلك وإرادتك، كُن مرنا ومتوازنا وصريحا وشجاعا ومرحا ومعطاءا، ولا تكُن ساذجا ولا عنيفا ولا ماكرا ولا ضحية ولا جلادا ولا تلعب دور المنقذ.
القائد الحازم بينان مرصوص من المشاعر والأفكار والمصالح والانضباط، وعندما يتحقق النجاح لابد أن يتوازي معه التواضع والأصالة[2]، وهذا يتطلب أن تكون شخصية القائد ذات أسلوب مميز في تعاملاتها، فالتبعية خطر والاستقلال في العقل والإرادة والرأي أحد وسائل بناء القيادة الحازمة، وهذا الاستقلال يحتاج إلى بناء وجهد ومثابرة وتجربة، فهو رحلة شاقة وليس قرارا سريعا، فالإرادة تحتاج إلى تدريب، والعقل يحتاج إلى تعليم، والسلوك يحتاج إلى تهذيب، والعاطفة تحتاج إلى ضبط.
أما الطموح فهو وقود وطاقة، حتى ولو كان الواقع كئيبا، والإمكانات محدودة، لذا يجب أن يكون القائد طموحا لا يطبق سقف إمكاناته على روحه الطليقة، ومع ذلك يجب أن يتمتع القائد بالمرونة التي شعارها التفاعل الواعي بين الأهداف والإمكانات والواقع، لذا كان من المرونة أن ينخرط القائد في بعض تفاصيل اللعبة حتى وإن كان يرفضها ويتعلم درس الطبيعة، وهو: أن الأشجار تغير أوراقها باستمرار ولا تتخلى عن جذورها، وهذا يتطلب أن يسعى القائد لتحقيق التوازن الذي هو حالة استقرار بين قوى متعددة وقد تكون متعارضة، فالتوازن حكمة بالغة لرؤية ثاقبة، أما الأعمال السطحية فإنها لا تترك أثرا، والجهود المشتتة لا تخلق نجاحا، والأفعال المتقطعة لا تثمر شيئا.
المعرفة..ما أعرف؟
هذا الفصل يحدد للقائد المعارف التي يجب أن يحيط بها علما وإدراكا لفهم الذات والعالم، فالجهد المنفصل عن العلم هو نوع من الفشل والضياع، لذا حدد الفصل ثلاث مجالات للمعرفة، هي: معرفة الذات، ومعرفة العالم، ومعرفة العمل، وفي هذا الإطار يحدد (35) قاعدة للحزم، منها: معرفة الذات والاستعدادات وكيفية تطويرها، ومعرفة المشاعر وكيفية تنميتها وعدم الوقوع تحت أسرها، ومعرفة الأوهام وكيفية التخلص منها، ومعرفة العادات لتهذيبها، والأخطاء لتجاوزها، والحدود للوقوف عندها، والموارد للتحرك في إطارها، ومعرفة اللعبة وقواعدها واللاعبين واستراتيجياتهم، والشركاء وأهدافهم ومصالحهم، والتغيير وقوانينه ومحركاته.
والحقيقة أن القيادة الحازمة لا تعني ألا تكون بلا عيوب، ومعرفة الذات لا تتم إلا بمعرفة الآخر، ولا تتم إلا من خلال التجربة الحية المتعددة والاحتكاك المباشر، وإن أعمق ما في الذات الإنسانية هي الاستعدادات المغروزة في الفطرة، وفيها تكمن الفضائل والاستعداد للرذائل، والشخصيات الضعيفة تقضي فترات طويلة لتجاوز مشاعرها السلبية، والقيادة يجب أن تكون من الشخصيات التي تتعلم من أخطائها، فالخطأ هو أعظم مُعلم لأنه يُعلم أسرار النجاح، والأخطاء أحد وسائل التعلم، والديمقراطية هي أقل الأنظمة فسادا لأنها أكثر الأنظمة فعالية في إدار المصالح المتعارضة، والقيادة الجيدة هي من تجيد بناء التحالفات والشراكات.
القدرة..ماذا أمتلك؟
القاعدة الكبرى في هذا الفصل أن فقه الوسائل لا يقل أهمية عن فقه المقاصد، وعالج الفصل القدرة عند القائد الحازم من خلال الإجابة على سؤال: ما على الذي على القائد الحازم أن يمتلكه؟ ويؤكد الفصل أن المال أحد الأدوات والوسائل التي يجب أن يمتلكها القائد بجانب أمور أخرى مثل: الخبرة والمعلومات والسمعة، ويضع الكاتب (10) قواعد منها: الكاريزما والمعلومة والعلاقات والمال والوقت.
والمعرفة سلطة يجب امتلاكها، والقاعدة تقول: امتلك المال قبل أن يمتلك الذين يمتلكونه، وحاول أن تمتلك السلطة حتى لا تقع تحت سيطرة الآخرين، وامنح نفسك مساحة رحبة للاختيار بين البدائل، فالتملك يمنح القائد قدرة على التموقع الجيد، وعلى القائد الحازم إدراك أن الموقع يتغير لكن الهدف يظل ثابتا، وإذا لم يدرك القائد ذلك يكون جامدا منغلقا، والسلطة امتلاك الشرعية والقدرة على توجيه الأحداث والأشخاص، ويعتبر امتلاكها هدفا في كل علاقة مبنية على التوجيه والتأثير والقوة.
القيم..كيفية الانضباط؟
الحزم ضرورة أخلاقية وقيادية، والقيم مصدر رئيس للتربية على الحزم، وعندما نفكر في القيم فإننا نعتقد أننا نفكر فيما هو مهم في الحياة، ويطرح الكتاب إشكالية علاقة القائد الحازم مع الغايات والقيم المطلقة والثابتة، مثل: الحرية والعدل والسعادة، مستعرضا (15) قاعدة للحزم منها: فهم الحزم والقيم المرتبطة به، وفهم طبيعة العلاقات المتبادلة بين القيم، وفهم الأولويات والبُعد الاجتماعي للقيم، ودور مؤسسات التنشئة من الأسرة والمدرسة والجامعة والوظيفة والسوق في تعزيز القيم أو إضعافها، وإدراك أن هناك قيما بينها قدر من الاعتماد المتبادل، فالهيمنة يقابلها الخضوع.
ويؤكد الكاتب أنه رغم أهمية الوسائل للوصول للغايات إلا أن هناك إهمالا واضحا في فقهها وإنتاج منظومات القيم الخاص بها، فالفكر العربي والإسلامي فقير في فقه الوسائل.
الفعل..ما أعمل؟
هذا الفصل يسعى إلى نبذ منهج الذين يفتشون الأقدار من ظاهرها ويبنون عليها حركتهم في الحياة، لذا من الضروري فهم نوعية الحركة المطلوبة للتغيير، من خلال (25) قاعدة تقود إلى الارتقاء بالفعل من العشوائية إلى الغائية والإنجاز، ومنها: لا تكرر نفس الخطأ، ولا تبحث عن إرضاء كل الناس، تقبل النقد والنصح، تعلم كيف تتغافل بحكمة، وتتحاور بذكاء وتتفاوض بواقعية، وتبحث عن الفرص وتتوقع التحديات وتقلص الفوضى وتحتفظ بيقظتك وتحقق النتائج وتتقاسم الأرباح، وكما يقول “ابن الجوزي” في كتابه “تلبيس إبليس”:”الحزم تدارك الوقت، وترك التسوف[3]، والإعراض عن الأمل[4]“.
[1] سورة إبراهيم: 4
[2] راجع موقف النبي –ﷺ- أثناء فتح مكة، ودخوله متواضعا رغم نصره العظيم
[3] التسوف هو التسويف والتأجيل للأفعال تحت شعار “سوف أفعل”
[4] المقصود بالأمل هو الأماني البعيدة عن العمل