أصبحت العلاقة بين الشرق والغرب أكثر تداخلاً من ذي قبل، لاسيما بعد ثورة الاتصالات؛ بحيث أصبحت أسئلة الغرب وتحدياته لا تنتظر المسلم حتى يذهب إلى هناك، وإنما تأتيه إلى هنا وهو قابع في منزله. فكيف يفهم المسلمون عامة، والشباب خاصة، العالم الحديث؟ هذا ما تصدَّى له المفكر السيد حسين نصر، وأسهم فيه إسهامًا جيدًا، في كتابه (دليل الشاب المسلم في العالم الحديث)..
في مقدمة كتاب “دليل الشاب المسلم في العالم الحديث”، والذي صدر عام 2004، عن مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي، بالأردن، وترجمة فاروق جرار وصادق عودة؛ يذكر حسين نصر أن العالم الإسلامي يواجه، وعلى مدى قرنين تقريبًا، هجمة ونظرة عالميتين أجنبيتين مثَّلتا تحديًا للعقيدة الإسلامية ذاتها، وأن التأثير الفلسفي والثقافي والفني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي لهيمنة الغرب الحديث يستمر بطريقة أو بأخرى في طول دار الإسلام وعرضها.
وأشار إلى أن العديد من المسلمين، وخاصة الشباب منهم، يرتحلون إلى الغرب طلبًا للعلم الحديث، وأن آخرين كثيرين يواجهون التحدي الذي يمثله العالم الحديث ضمن الحدود الجغرافية للعالم الإسلامي نفسه.. ولكن قلة هي التي تكتسب معرفة معمقة بالعالم الحديث تمكنها من الحفاظ على الإسلام في ضوء تحديات ذلك العالم، ومن النجاح في توفير رد الفعل الإسلامي تجاه المشكلات التي تفرزها الأيديولوجيات السائدة.
ولفت حسين نصر إلى أننا، في العمل على إيجاد دليل المسلم للعالم الحديث، بحاجة إلى:
أ- التأكيد على الحقائق الأزلية للإسلام كما أوحى بها رب العالمين، وبيّنها النبي ﷺ، وشرحها العلماء والمفكرون على مدى القرون.. بحيث نقدم زبدة الرسالة الإسلامية متجاوزين الخلافات والعصبيات المذهبية.. وبلغة معاصرة يمكن للشباب المسلم أن يفهمها.
ب- الاستناد إلى معرفة وثيقة معمقة بالتقاليد والموروثات الدينية والفكرية الغربية، ولا يكفي إطلاق تعميمات معينة حول الغربيين وتعلقهم بالمادة أو ميلهم للحركة الدائبة والتمتع بالحياة الدنيا.. بحيث نفهم الغرب بصورة تتجاوز القشور إلى اللب، ويتسنى فهم تطور الحداثة والجذور التاريخية للأيديولوجيات والقوى الفاعلة والمؤثرة.
ج- وعلى أساس من حقيقة الإسلام وطبيعة العالم الحديث، يمكن رسم “خريطة” يستهدي بها المسلمون، وخاصة الشباب منهم، في خضم هذا العالم الذي تصطرع فيه الإرادات والعناصر المناهضة للدين التي تشكِّل العالم الحديث.
وأشار حسين نصر إلى أنه مع توافر المعايير الحقيقية التي يقدمها الإسلام بصورة ناجزة، يمكن للفرد:
1) أن يميز الصالح من الطالح عندما يواجَه بالعناصر المتنوعة لعالم اليوم.
2) أن يتفهم التحديات التي تشكلها القوى والأيديولوجيات المختلفة، وأن يسعى لتوفير رد إسلامي عليها.
3) أن يحصل على السلاح الفكري والمعنوي اللازم كي يحافظ على البقاء ويقدر على التعامل في العالم الحديث دون أن يفقد إيمانه.
4) وربما أتيحيت له الفرصة أيضًا لأن يقدم للآخرين تحدي الإسلام؛ باعتباره دينًا حيًّا قادرًا على توفير معنى للحياة البشرية إلى عالمٍ فقد اتجاهه وتوجهه.
وعبر عدة فصول، سعى المؤلف إلى تنفيذ هذا “البرنامج” بلغة سهلة إلى حد كبير، متوجهًا بصورة رئيسية إلى الشباب المسلمين الذين يواجهون مناحي عديدة للعالم الحديث من خلال تجربتهم التعليمية والاجتماعية.. وذلك عبر ثلاثة أقسام رئيسية عن: رسالة الإسلام.. وطبيعة العالم الحديث.. والرد على التحديات الحديثة.
رسالة الإسلام
في هذا القسم من كتاب “دليل الشاب المسلم في العالم الحديث” قدم المؤلف، وفي سبعة فصول، خلاصات مهمة أساسية عن الإسلام نشأةً وتطورًا، فكرًا وتاريخًا، مسارًا وامتدادًا؛ بحيث يلم القارئ بما ينبغي عليه معرفته من حقائق وأسس ومعالم عن الإسلام.
فجاء الفصل الأول عن الإسلام، والقرآن، والحديث، والوحي ومعنى الدين.. فيما تناول الفصل الثاني: الله، والإنسان والكون، ومسائل تتصل بالحشر والنشر. وأما الفصل الثالث فكان عن الشريعة. والفصل الرابع عن الروحانية الإسلامية والفكر الإسلامي. وتناول الفصل الخامس العلوم الإسلامية، والسادس الأدب والفنون، والسابع تطرق إلى العالم الإسلامي في العصر الحديث.
وفي خلاصة مكثفة، أوضح المؤلف أن الإسلام دين يقوم على التسليم لإرادة الله الواحد الأحد، وعلى معرفة وحدانيته. إنه دين الخضوع لله، الوجود الأعلى، مدبِّر الأمر كله الذي ترجع إليه جميع الأمور. والإسلام هو أن يحظى الإنسان بالسلام من خلال عملية التسليم هذه. وهو- أي الإسلام- ليس أكثر من أن يعيش المرء وفق مشيئة الله لكى يحظى بالسلام في هذا العالم والهناء في الآخرة. ولا يرى الإسلام في الدين مجرد جزء من الحياة وحسب، ولكنه يرى فيه الحياة بمجملها، فهو الحياة ذاتها، وهو يتضمن ما نعمل، وما نصنع، وما نفكر فيه، وما نستشعره، إضافة إلى أنه يجيب عن تساؤلنا: من أين أتينا؟ وإلى أين نعود؟.. وليس هناك شيء خارج عن نطاق المملكة التي يحكمها الدين الذي شرعه الله.
ويضيف المؤلف: وفي الوقت ذاته يولي الإسلام أهمية قصوى للحقيقة الخالدة التي وجدت منذ البدايات الأولى، وهي حقيقة التوحيد. وقد شهد الإنسان بوحدانية الله وربانيته حتى قبل خلق العالم. والله تعالى يغفر الذنوب جميعها إلا الشرك بالله. وهذا المفهوم التوحيدي للرسالة الدينية الذي يقدمه الإسلام ينسحب أيضًا على تاريخ البشرية بمجمله؛ فالإسلام وجد منذ البداية، وآدم كان مسلمًا.. ولكن هذه الوحدانية جرى نسانيها تدريجيًّا، ذلك أن طبيعة البشر تجنح إلى النسيان؛ غير أن الله تبارك وتعالى كان يرسل رسلاً آخرين دائمًا لتجديد رسالة التوحيد.. فالدين المستند إلى التوحيد ليس جديدًا، ولكنه مترادف مع التاريخ الديني للبشرية.
ويتابع: الإسلام هو الدين الذي جاء لا ليحمل معه الجديد، بل ليعيد تأكيد حقيقة التوحيد التي كانت موجودة من قبل دائمًا. وهو دين عالمي، دين الفطرة. وهو عودة للميثاق الأساسي، ميثاق الفطرة، بين الله والإنسان، الذي لم يُعطَ الإنسان بموجبه مهمة الخضوع لله، أي أن يكون عبدًا لله، وحسب؛ بل جُعل بموجبه أيضًا خليفة الله على الأرض، متمتعًا بالعديد مما منحه الله تعالى وأعطاه، مما يستوجب من الإنسان أن يظل دائمًا شاكرًا لله نعمه.
طبيعة العالم الحديث
وفي هذا القسم تناول المؤلف، ومن خلال سبعة فصول، الدين في الغرب الحديث، والمدارس الفلسفية والفكرية الغربية الحديثة، والعلوم والتكنولوجيا الحديثة، والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم الحديث، والتربية الحديثة.. وخَتَم بتناول أسلوب الحياة الحديثة.
وأوضح المؤلف أنه لا يمكن لشاب مسلم أن يفهم العالم الحديث دون فَهْمٍ لدور الدين، وكذلك أفول شمس هذا الدين في الغرب أثناء مدة تكون العالم الحديث وميلاده ونموه وانتشاره في أوروبا وأمريكا، وانتشاره وامتداده فيما بعد إلى مناطق أخرى.
وتابع: لاشك أن الغرب كانت تغلب عليه الصبغة المسيحية منذ ظهور الحضارة الغربية القروسطية، ولم تكن هذه الحضارة مجرد استمرار لحضارة بلاد اليونان وروما؛ بل كانت في جوهرها حضارة خرجت إلى حيز الوجود عندما تغلغلت المسيحية في الإمبراطورية الرومانية بعد الضعف والاضمحلال التدريجي الذي لحق بتلك الإمبراطورية، وكانت النتيجةُ ميلادَ حضارة جديدة ذات طابع مسيحي غالب، وإن كانت ورثت عناصر هامة من روما وكذلك من اليونان. ولذلك فإن تاريخ الدين في الغرب كما نعرفه اليوم، مرتبط في المقام الأول بالمسيحية.
ويوضح المؤلف أنه إلى جانب تطور المسيحية ونموها التاريخي في الغرب، لابد من إبداء قدر من الاهتمام بالمعركة الطويلة بين الدين والعلمانية، من أجل فَهْم معنى الدين وموقعه في الغرب في هذه الأيام. فقد عملت العلمانية تدريجيًّا على فصل الفلسفة ومن ثم العلم عن مجال الدين، ثم على إقصاء مختلف الأفكار والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت ذات أهمية دينية خلال العصور الوسطى في الغرب، عن عالم المعاني الدينية؛ وينطبق ذلك على الفن الغربي الذي لم يتمتع برعاية الدين في القرون المبكرة وحسب، بل كان مشبعًا بالقيم والمعاني الدينية.. ومع هذا، فالعنصر المسيحي في الروح الغربية أقوى مما قد يتراءى للكثيرين لدى إلقائهم نظرة خاطفة على الظواهر السطحية للأشياء.
بدورها، وخلال العصر الحديث، عمدت الفلسفة- كما يرصد المؤلف- إلى فصل نفسها عن الدين، ثم تحالفت مع العلوم التجريبية والطبيعية، وطوّرت أساليب متنوعة للتفكير كثيرًا ما سعت إلى الحلول محل حقائق الدين؛ كما نلاحظ في ظهور فكرة العقائدية (الأيديولوجيا)، وهو مصطلح واسع الاستعمال هذه الأيام حتى عند المسلمين الذين نادرًا ما يدركون الطابع العلماني والمعادي للدين في جوهره الذي تعنيه كلمة أيديولوجيا، والتي أخذت تحل تدريجيًّا محل الدين التقليدي في كثير من الوساط.
في الرد على التحديات الحديثة
وقد اهتم هذا القسم الثالث بتقديم ما يمكن أن يكون فحوى ردٍّ إسلامي على التحديات التي تطرحها الحداثة.. وهنا عدة نقاط أوضحها المؤلف:
1- أن جوهر الرد الإسلامي على العالم الحديث يتألف بطبيعة الحال من المظاهر الدينية والروحية والفكرية للحياة الإنسانية. وأهم خطوة ينبغي أن يتخذها شاب مسلم هي الحفاظ على متانة عقيدته، وعدم فقدان الثقة بسلامة الوحي الإسلامي وصدقه. فالعالم الحديث يعمل على إحداث تآكل وتدميرٍ لكل ما هو مقدس وديني في وسطه، ويقف موقف المعارضة بصورة خاصة ضد الإسلام كدين رفض التخلي عن نظرته المقدسة إلى الحياة وإلى الشريعة الإلهية التي تشمل كل نشاط إنساني.
ومن الأهمية بمكان أن ينهض الشباب المسلمون ليتعلموا المزيد عن تراثهم الفكري الخاص الذي يشمل جميع فروع المعرفة الإسلامية؛ ابتداءً من الفقه ومبادئه وأصوله، وانتهاءً بالعقيدة والفلسفة والعلوم الروحية، فضلاً عن المواضيع الأساسية التي تشمل تفسير القرآن ودراسة الحديث. وإذا كان من المستحيل على شاب إتقان جميع هذه المواضيع، فإن من غير المستحيل الحصول على معرفة أولية بهذا التراث الفكري لتفادي الإحساس بالدونية في مواجهة الاندفاعة القوية للتحدي الغربي؛ الذي يتمثل أكثر ما يتمثل في ميدان المعرفة.
2- في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الحياة، من الضروري للشباب المسلم التمييز بين التعاليم الإسلامية الأصيلة التي أُدمجت إلى حد بعيد في البُنَى الاجتماعية في ذلك الجزء من العالم الإسلامي الذي نشأوا فيه، وبين التقاليد والعادات المحلية التي تحيط هي الأخرى بحياتهم.. وأن يكون تقويم الشباب المسلم للمؤسسات الاجتماعية الإسلامية تقويمًا إسلاميًّا، وليس بناءً على الانتقادات الحديثة الغربية؛ التي هي متعارضة مع الإسلام- كما في شئون المرأة والأسرة- وتقوم على نظرة متغيرة باستمرار في الغرب نفسه.
3- وفيما يتعلق بالمجال الفني بالمعنى العام للكلمة، فعلى الشباب المسلم أن يتعرفوا على التراث الفني الإسلامي الذي يقوم على منظومة هرمية من القيم وفلسفة للفن تختلف اختلافًا بينًا عن تلك الموجودة في الغرب. وأسمى الفنون قدرًا في الإسلام هما: فن الخط وفن العمارة، تتلوهما فنون اللباس وصنع الأشياء والأدوات، بجانب الفنون غير التشكيلية الممثلة في الشعر والموسيقى والأناشيد.. وأن يدرك الشباب أنه ليس لزامًا على كل حضارة إنتاج ذات الأنواع من الفن وإخضاع هذه الفنون لنفس الترتيب الهيكلي في الأهمية.
4- أما طراز الحياة الحديثة، والذي يستهوي الجانب العاطفي الشهواني المتمرد في النفس، فأول واجبات كل مسلم هو العيش حسبما تقتضي مشيئة الله، حيث لا يوجد سبيل آخر يسمح للمرء بفعل شيء غير ذلك.
ويختم المفكر السيد حسين نصر كتابه “دليل الشاب المسلم في العالم الحديث” بالقول: الإسلام واقع حيّ، في الوقت الذي لا يزال العالم الحديث، وبالرغم من تفككه من الدخل، قوةً فعّالة يحسب حسابها على ساحة التاريخ. لذلك فإنه ليس لدى المسلمين إمكانية للبقاء كمسلمين دون أن يستطيعوا الرد على التحديات التي يفرضها عليهم العالم الحديث. ولا بد من فهم العالم الحديث فَهْمًا عميقًا وذكيًّا، والرد على تحدياته ليس بصورة عاطفية، بل على أساس المعرفة الحقيقية لذلك العالم بالاعتماد على معرفة التراث الإسلامي بكل أبعاده في ذورة اكتمالها.