تتجاوز العملية التعليمية حدود حفظ الصفحات وأداء الامتحانات، لتصبح حياة متكاملة يعيشها الطالب في مختلف أبعادها. بينما تشكّل الأنشطة المدرسية العنصر الحيوي الذي يمنح العملية التعليمية رئة التنفس والحركة، إذ تحول المعرفة إلى ممارسات حقيقية والقيم إلى سلوك ملموس، مؤدية إلى بناء مجتمع مدرسي نابض بالحياة يثري شخصية الطالب ويطوّرها بشكل متكامل.
التكامل بين البيت والمدرسة
تغرس الأسرة البذرة الأولى للانضباط والالتزام في نفس الطفل، فتكون بمثابة مدرسة أولى له. وما إن يدخل المدرسة حتى تتهيأ له الفرصة لتصقل هذه البذرة وتنميها. ويعتبر النشاط المدرسي المفتاح الحقيقي؛ إذ يمنح الطالب المساحة الكافية ليختبر مواهبه ويتحول من مجرد متلق لما تعلمه في البيت والصف إلى مشارك بالتطبيق عبر مواقف عملية، فيختبر ذاته من خلال المسابقات المسرحية، والفرق الرياضية، والفعاليات الجماعية.
إن مشاركة الطالب في مثل هذه النشاطات ستخرجه من حالة التلقي السلبي إلى أفق التجربة والاكتشاف، فتتسع مداركه بثمرات المعرفة الحية.
الأنشطة المختبر الحقيقي للقيم التربوية
وإذا عدنا لتعريف النشاط المدرسي بحسب دائرة المعارف الأمريكية : “برامج تنفذ بإشراف المدرسة وتوجيهها وتتناول كل مايتصل بالحياة المدرسية وأنشطتها المختلفة ذات الارتباط بالمواد الدراسية أو الجوانب الاجتماعية أو البيئة أو الأندية ذات الاهتمامات الخاصة بالنواحي العلمية أو العملية”. (1) وإذا فهمنا ذلك سنكتشف أن القيم تكتسب بالممارسة التي تضع الطالب في مواجهة الحياة ومكوناتها. فالنشاط المدرسي هو المختبر الذي تختبر فيه القيم الحقيقية على أرض الواقع.
- ففي سياق النشاطات الرياضية الجماعية، يدرك الطالب قيمة التعاون والجهد المشترك، ويكتشف أن الإنجاز الحقيقي هو ثمرة عمل جماعي يتكامل فيه الجميع.
- ومن خلال الأعمال التطوعية يتذوق معنى العطاء الحقيقي ويتعلم الطالب كيف يكون عضوا فاعلا في مجتمعه.
- بينما الفنون المسرحية وتدرب الطلاب على مهارات الإلقاء والجرأة والصدق في التعبير.
مهارات حياة تتشكل عبر النشاط المدرسي
تعد الأنشطة المدرسية بوابة لا غنى عنها لاكتساب مهارات ترافق الطالب في كل مراحل حياته، من هذه المهارات على سبيل المثال :
- التفكير النقدي والإبداعي: يكتسبه الطالب من خلال تجاربه في روبوتات البرمجة والمختبرات العلمية، متعلما كيف يحل المشكلات بطرق مبتكرة وغير تقليدية.
- مهارات التواصل: تتطور عبر النوادي الثقافية والمناظرات، حين يصبح الطالب قادرا على التعبير بوضوح والإنصات باحترام لوجهات نظر الآخرين.
- العمل الجماعي وروح الفريق: تنمو في أنشطة الفرق الرياضية والفنية، فيدرك الطالب أن النجاح لا يرتكز على الفرد فقط، بل على الجهد المشترك والتكامل.
- مهارات القيادة والمسؤولية: يختبرها الطالب عندما يكلف بتنظيم نشاط ما، فيتعلم كيفية اتخاذ القرار والتوجيه، وتحمل نتائج العمل الذي قاد إليه.
- المرونة والتكيف: الأنشطة تنمي لدى الطالب التعامل مع الظروف وعلى تقبل الخسارة بصدر رحب، والنهوض من جديد، فيكتسب الصبر وروح التحدي.
من بين القصص التربوية التي توضح أهمية الأنشطة المدرسية والتي كنت شاهداً عليها، أتذكر قصة طالب اتسم بالخجل الشديد، لم يكن يملك جرأة رفع رأسه في الصف أو التعبير، وتنبهت لهذا الأمر فدفعته للمشاركة في مسرحية مدرسية، وهناك انفتحت أمامه آفاق جديدة وتعلم فن الإلقاء، ليكتشف شغفًا لم يكن يعرفه من قبل. وبعد مرور عامين، تحول هذا الطالب إلى قائد فريق الخطابة في مدرسته، مما يؤكد مجددا الدور الذي تلعبه الأنشطة المدرسية للتعلم والنمو.
جسر يربط المدرسة بالمجتمع
تتعدى أهمية الأنشطة حدود المدرسة لتربط الطالب بوطنه ومجتمعه. يشترك في حملات التنظيف والتشجير، ويفهم أن مسؤولياته لا تقتصر على النجاح الفردي بل تشمل خدمة مجتمعه. تنظيم المعارض الخيرية والأيام المفتوحة يغرس في نفسه شعور الانتماء ويشده لقضايا وطنه، ليصبح النشاط بذلك جسرًا يوصل الطالب بحيوية الحياة الخارجية.
مهندس التحولات التعليمية
دور المعلم يمتد إلى ما هو أبعد من التدريس والمراقبة، إذ يتحول إلى مهندس وموجه للنشاطات التربوية. المعلم المتمرس يُخطط للنشاط بروح مسؤولية، ويكتشف مواهب طلابه ويوفر لهم المساحات التي تبرز قدراتهم، ويربط كل نشاط بالقيم والمعارف التي يزودهم بها في الصف. غيابه قد يجعل النشاط عُرضًا بلا مضمون ووقتًا ضائعًا.
تحديات أمام الأنشطة المدرسية
تواجه الأنشطة المدرسية عوائق متعددة قد تقلل من أثرها ومن أهم هذه التحديات :
- قلة الوقت المخصص لها: غالبا ما تُدرج الأنشطة في آخر الجدول الدراسي كاستراحة، لا كجزء جوهري من التعلم. التركيز المفرط على الجانب النظري والامتحانات يجعل .النشاط مهمشًا، فيُحرم الطلاب من فرص اكتشاف مواهبهم وصقل شخصياتهم
- ضعف الموارد والبنية التحتية: ليست كل المدارس مزودة بمسارح أو ملاعب أو .مختبرات، ما يجعل النشاط حبيس الأوراق
- التركيز على الشكل دون المضمون: تتحول بعض الأنشطة إلى عروض استعراضية لا تترك أثرًا في الطالب.
- غياب الرؤية التربوية: إذا لم يكن النشاط مرتبطًا برسالة المدرسة وقيمها، فإنه ينتهي إلى ترفيه وقتي لا يثمر
تجارب ناجحة
تشهد منطقة الخليج العربي ودولة قطر على وجه الخصوص تجارب ناجحة تظهر كيف يمكن للنشاط أن يغدو وسيلة تربوية فعالة. فمن إقامة مسابقات الروبوت والبرمجة التي تزرع شغف الابتكار، إلى المبادرات البيئية التي تربي مسؤولية المحافظة على الأرض، ومن النشاطات الرياضية التي تعزز الانضباط والصحة الجسدية، إلى زيارات المتاحف والمراكز الثقافية التي تربط الطالب بجذوره وهويته الثقافية.
كما يمكن إدخال الأنشطة الرقمية والإعلامية، مثل الصحافة الطلابية الإلكترونية والإنتاج المرئي وصناعة المحتوى الرقمي، كنقلة نوعية تواكب واقع الطلاب في عصر الثورة الرقمية، مزودة إياهم بأدوات تعبير عصرية فعالة.
من النماذج المحلية الناجحة، رحلة قامت بها مدرسة العلوم والتكنولوجيا في قطر إلى وادي السيليكون بالولايات المتحدة، حيث التقى الطلاب بكبار المخترعين والعلماء، ومن بينهم علماء عرب، خلال العطلة الصيفية. مثل هذه المبادرات توسّع آفاق الناشئة، وتربطهم بعالم البحث والتطوير العالمي، وتغرس فيهم الطموح بأن الإبداع ممكن مهما كان .
وعالميًا يمكن الإشارة إلى تجارب مثل: فنلندا التي تقدم أنشطة يومية في الطبيعة، واليابان التي ترسخ قيم الانضباط عبر مشاركة الطلاب في تنظيف المدرسة، والولايات المتحدة التي تلزم الطلاب بخدمة المجتمع، وسنغافورة التي تشجع التعلم عبر مشاريع عملية تخدم المجتمع.
توصيات مستقبلية
وسيبقى هذا السؤال معلقا: هل يظل النشاط المدرسي مجرد “فاصل” بين الحصص؟ أم يعاد تقييمه كـجسر مساعد بين المعرفة والحياة؟ إن مستقبل التعليم المشرق يتطلب أن تدمج الأنشطة في نسيج المناهج بشكل يضمن لها مكانة تضاهي قيمة الدرس ذاته.
وفي ظل زحف العولمة وتمدّد ذكاء الآلات، تتوجه مدارسنا لإعادة رسم خريطة النشاط بما يتلاءم وروح العصر، مع الاحتفاظ بأصلها الإسلامي والوطني الراسخ. فطالب اليوم، الذي يسبح في بحار رقمية عاتية، يحتاج لأن يعتلي موجة التكنولوجيا ويجعلها في خدمة قيمه، لا أن تستهلكه. هنا يتجلى بريق الأنشطة الإعلامية وصناعة المحتوى الرقمي وفنون البرمجة، كامتدادٍ مثمر لروح النشاط المدرسي إنما في ثوبٍ عصري جديد.
ومن بين المقترحات العملية التي يمكن أن تُثري مستقبل النشاط المدرسي، أن تُعيد وزارات التعليم في العالم العربي توظيف المباني المدرسية لتكون مراكز ثقافية ورياضية مفتوحة للطلاب وأسرهم في أوقات ما بعد الدوام، بحيث تتحول المدرسة إلى فضاء حيّ يخدم المجتمع كاملًا. كما يمكن لمؤسسات التربية والتعليم أن تطلق مبادرات لإنشاء مخيمات خاصة بالطلاب والطالبات على أراضٍ مخصصة خارج المدن، بحيث توفر بيئة آمنة وغنية بالبرامج التربوية والترفيهية وتتيح للطلبة فرصة التخييم والتعلم في أجواء مختلفة.
ولا يقل أهمية عن ذلك تنظيم رحلات علمية وترفيهية خارج البلدان ، تعرف الطلاب بثقافات وتجارب جديدة، وتمنحهم خبرات حياتية لا تُكتسب بين جدران الفصول. مثل هذه المشاريع تجعل .النشاط المدرسي امتدادًا طبيعيًا للحياة، وتربطه بالمجتمع والعالم.
خاتمة
للأنشطة المدرسية نصيب مهم من العملية التربوية، حيث تساهم بشكل فاعل في تعزيز نمو الطالب، ويتيح الانخراط في هذه الأنشطة للطالب بناء الثقة بالنفس، وتقوية الالتزام بالقيم السلوكية، وبذلك يصبح الطالب أكثر قدرة على مواجهة تحديات التعلم والتفاعل بفعالية مع بيئته التعليمية والاجتماعية.