منذ أن انفك ارتباط الدولار بالذهب، انقسم العالم فيما يتعلق بصرف العملة بين توجهين: الأول يقضي بتعويم العملة أو تحريرها، والثاني يقضي بتثبيت صرف العملة أو بمعنى آخر ربطها بعملة أخرى أو بسلة من العملات. ورغم أن الخيار الأول هو الأصل وأنه سيعكس حقيقة الاقتصاد الوطني ويجنبه التأثر بالأزمات التي تتعرض لها العملات الأخرى، لكن في النهاية يبقى  لكل من النظامين مسوغاته وإيجابياته وسلبياته. وسأخصص هذا المقال لخيار التعويم مستعينا ببعض النماذج العربية والأجنبية.

 

يخضع سعر العملة المحلية عند التعويم لآلية العرض والطلب في سوق العملات دون تدخل من السلطات الحكومية أو البنك المركزي. وغالبا ما يؤدي قرار التعويم في البداية لتدهور قيمة العملة المحلية حتى تصل للسعر التوازني؛ وهو ما ينطوي على إيجابيات متعددة، فإذا افترضنا أن عمْلة معينة فقدت بعد التعويم نسبة 20% من قيمتها فمعنى ذلك انخفاض تكلفة الاستثمار بالنسبة للأجانب وكذا انخفاض تكلفة السياحة والصادرات بنسبة 20%.

كذلك سيؤدي هذا الانخفاض لزيادة سعر الواردات والحد منها وبالتالي زيادة أسعار المواد المستوردة وزيادة الإقبال على المنتجات الوطنية وما ينطوي عليه ذلك من تشجيع للمنتجات المحلية.

إن تحرير سعر صرف العملة الوطنية إذا رافقته إصلاحات اقتصادية تركز على الإنتاج والتصنيع، من شأنه أن يؤدي إلى دعم الاقتصاد الوطني من خلال زيادة التصدير والحد من الاستيراد غير الضروري، واستقطاب المزيد من المستثمرين الأجانب وهو ما سيؤدي لتحسن وضعية الميزان التجاري وزيادة معدلات النمو وتراجع مستويات التضخم وتعافي العملة المحلية تدريجيا.

ورغم ما سبق فقد تكون لقرار التعويم غير المدروس سلبيات خطيرة على الاقتصاد الوطني وعلى المستوى المعيشي للمواطنين تحول دون الاستفادة من الإيجابيات آنفة الذكر، فالتدهور المفاجئ لقيمة العملة المحلية بالنصف مثلا سيؤدي لتضرر من يستثمر باستخدام العملة المحلية لأنه ببساطة سيفقد نصف قيمة ثروته كذلك ستزيد خدمة الدين وسترتفع تكلفة الواردات وستتفاقم معدلات التضخم وهو ما سيؤثر تأثيرا مباشرا على الحالة المعيشية للمواطنين.

تعويم الجنية المصري

رغم الظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد المصري فقد أعلن البنك المركزي  المصري نهاية 2016 عن التحرير الكامل لسعر الجنيه أمام العملات الأجنبية، كاستجابة – فيما يبدو- لشروط صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على تمويل بقيمة 12 مليار دولار.

وتوقعت السلطات المختصة أن يتم القضاء على السوق السوداء ويحقق الاقتصاد المصري تحسنا في بعض الجوانب على مستوى التصدير والسياحة والاستثمارات الأجنبية. وبعد أزيد من سنة على قرار التعويم، كانت النتائج دون المأمول؛ حيث لم يتم القضاء نهائيا على السوق السوداء، وارتفعت الصادرات غير البترولية – حسب وزير التجارة والصناعة المصري- لكن بنسبة لم تتجاوز10% كما انخفضت نسبة الواردات بنسبة 14%. وحدث تحسن طفيف في قطاع السياحة والاستثمارات الخارجية.

لكن بالمقابل تدهورت قيمة الجنيه بنسبة تقارب الـ 100% مقابل الدولار الأمريكي، حيث انتقلت قيمة الدولار الواحد من 8.8 جنيها قبل التعويم إلى قرابة 18 جنيها في نوفمبر تشرين الثاني الحالي 2018، وأدى ذلك لتضاعف معدلات التضخم، الشيء الذي أثقل كاهل المواطن المصري من ذوي الدخل المحدود والمتوسط. كذلك تزايدت معدلات الديون الخارجية والداخلية.

وبالتأكيد فإن الظروف الاقتصادية التي اتخذت فيها السلطات المصرية المختصة قرار التعويم لم  تكن مناسبة، كما إن الظروف الأمنية بشبه جزيرة سيناء ربما تكون لعبت دورا في الحد من فاعلية قرار التعويم، خاصة فيما يتعلق بالسياحة والاستثمارات الأجنبية.

تعويم الدرهم المغربي

لعل تجربة المملكة المغربية مؤخرا في تعويم الدرهم تكون أكثر موضوعية، لأن السلطات النقدية اتخذت القرار في ظروف مواتية – إلى حد ما- سواء تعلق الأمر بالأمن والاستقرار أو بالتضخم الذي تمت السيطرة عليه دون 2%، وكذا الاحتياطي من النقد الأجنبي الذي يكفي – حسب البنك المركزي المغربي- لتغطية واردات البلاد لمدة 5 أشهر و24 يوما.

من ناحية أخرى فإن السلطات المغربية المعنية قررت التعويم بطريقة متدرجة لمدة قد تصل – حسب بعض التوقعات- إلى 15 سنة؛ ففي البداية بدأ المصرف المركزي المغربي يسمح للدرهم بالتحرك في نطاق ( +2.5 و 2.5-) صعودا وهبوطا بدلا من(+0.3 و – 0.3 ).

ومما يبعث على التفاؤل بنجاح هذه التجربة، ما شهدته المملكة في السنوات الأخيرة من اهتمام متزايد بالصناعات الخفيفة وحتى الثقيلة، حيث استطاعت استقطاب شركات عالمية فرنسية وصينية وأمريكية متخصصة في صناعة السيارات والطائرات…

تعويم الريال البرازيلي

لقد تم تعويم الريال البرازيلي سنة 1999 ليفقد أكثر من 87% من قيمته –حسب بعض التقديرات-  ما أدى لتفاقم مشكلة التضخم بشكل جنوني، الشيء الذي أثر على الحالة المعيشية للمواطنين، لكن الريال البرازيلي استطاع سنة 2003 أن يستعيد استقراره. ورغم بعض الآثار السلبية فقد نجحت سياسة التعويم في البرازيل في السيطرة على  التضخم وإحداث تحسن ملحوظ في وضعية الحساب الجاري، فضلا عن ارتفاع معدلات النمو، وتجسد ذلك على مستوى التصدير والاستثمارات الأجنبية في البلاد. ومع تشجيع الصناعات المحلية أصبحت البرازيل اليوم أكبر اقتصاد على مستوى أمريكا اللاتينية وثامن اقتصاد في العالم لسنة 2018 (حسب مؤسسة Focus Economics).

ومما لا شك فيه أن لتعويم العملة فوائد مهمة على الاقتصاد الوطني، لكن هذا القرار يحتاج إلى تهيئة الظروف المناسبة له، فلابد لدولة مقْدمة عليه، أن تعمل أولا على التحكم في بعض المؤشرات الاقتصادية؛ كالتضخم ووضعية الميزان التجاري وحجم المديونية وحجم الاحتياطيات من العملات الصعبة…ولابد كذلك من التدرج في تطبيق قرار التعويم. لكن توفر كل تلك الظروف لا يكفي – فحسب- لكي يعطي التعويم أكله، بل لابد – في نفس الوقت- من وضع خطة اقتصادية محكمة وشاملة، تكون الأولوية فيها للإنتاج في جميع القطاعات والتصنيع والتصدير من خلال دعم وتسهيل إجراءات الاستثمارات المحلية والأجنبية في البلاد وتطوير المشروعات الصناعية المحلية. وكذا تنمية روح المواطنة الاقتصادية من خلال حث المواطنين وتوعيتهم بأهمية تفضيل المنتوج الوطني على غيره.