قال الدكتور أحمد سالم الباحث المتخصص في التاريخ إن الحضارة الإسلامية حضارة عالمية استوعبت كافة الثقافات والشعوب السابقة عليها، وأن التنوع الثقافي الكبير بينها لم يكن عائقًا لتكوينها وحدة ثقافية واحدة، وترابطها في ظل الإسلام.. مضيفًا: نأمل لأمتنا أن تتعلم من تاريخها وتنظر فيه مليًّا علّها تجد طوق النجاة المفقود.
وأشار إلى أن التاريخ هو أبو العلوم، وهو العلم الوحيد الذي يدخل في إطاره أي علم آخر؛ فلا يمكن لعالم طبيعة أو فيزياء أو فلك أو أحياء على سبيل الأمثلة أن يخترع أو يطور أو يكتشف جديدًا في علمه، إلا بعد أن يلم بتاريخ ذلك العلم وتطوره وتاريخ شخصياته المؤثرة وما قدموه في سبيل تشكيله وتطويره.
والدكتور أحمد سالم سالم باحث ومترجم مصري في مجال التاريخ والحضارة، وصدر له العديد من الكتب والترجمات المهمة، وقد فاز عام 2015م بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، عن ترجمة كتاب (تاريخ مصر في العصور الوسطى) للمستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول.. فإلى الحوار:
نود أن نتعرف على رحلتكم العلمية في رحاب التاريخ، وثمارها.
تعرفت على التاريخ منذ الصغر من خلال عالم القصص القرآني الذي كنت أبحر فيه مع والدي، وصرت شغوفًا بعلاقة هذا القصص بالتاريخ، وكنت دائم التساؤل عن حقيقة فرعون موسى عليه السلام، وموقعه من التاريخ وما خلفه من آثار، ورغم أنني لم أتخصص في هذه الفترة القديمة إلا أنها كانت سببًا لاهتمامي وشغفي الشديد بمجال التاريخ والحضارة بشكل عام، وعندما التحقت بكلية الآداب جامعة الإسكندرية أواخر القرن الماضي كنت بالطبع على موعد مع قسم التاريخ فيها، إلى أن حصلت على الدكتوراه متخصصًا في الفترة العثمانية عام 2015م.
إلا أن علاقتي بالتاريخ منذ التحاقي بالكلية لم تكن مجرد علاقة طالب بمواد دراسية، بل كانت أكبر وأعمق من ذلك بكثير، فلم أكف يومًا عن اقتناء الكتب المختلفة في المجال وما يرتبط به، وفي زمن ما قبل النت ووسائل التواصل الحديثة، كنا نجوب الآفاق بحثًا عن كتاب أو معلومة وهو ما جعلنا نتشبع بالطرق القديمة في التحصيل، حتى إذا فُتحت لنا نافذة النت على مصراعيها خضنا فيها خوض النهم إلى مزيد من المعارف، فتواصلنا مع ما كان يستحيل علينا التواصل معه من مراكز أبحاث وجامعات ومكتبات عالمية وغيرها، فكان ذلك سببًا آخر لتكوين حصيلتي المعرفية سواء في المجال أو خارجه.
وقد شغفت مع كل ذلك بالترجمة، لأنني وجدت فيها سبيلاً آخر للوصول إلى المعارف التاريخية التي كنت ألتمسها، ودخلت المجال في البداية كهاوٍ يحاول القراءة في المجال بلغات أخرى كسبيل مختلف إلى اكتشاف تلك المعارف، وكذلك الوصول إلى حدود أخرى لم أصل إليها في الأساليب والمدارس والمناهج المختلفة في التأريخ، وهذا ما عرفني على بحر الاستشراق الواسع، وما به من أمواج متلاطمة وتيارات متضادة.
وقد وجدت في الترجمة ما لم أجد في غيرها من وسائل حتى بلغت حد الاحتراف حتى قبل أن أحصل على الدكتوراه، فقد صدر أول كتبي المترجمة (تاريخ مصر في العصور الوسطى) للمستشرق الإنجليزي ستانلي لين بول عام 2014م. وكانت ترجمتي لهذا الكتاب بالذات المنتمي للعصور الوسطى، أثناء دراستي للتاريخ العثماني؛ محاولةً مني لإثبات التواصل بين الحقب والعصور التاريخية المختلفة، على عكس فكرة القطيعة التاريخية التي شعرت أن المناهج الدراسية وبعض الكتابات ترسخ لها بوضعها حدودًا وفواصل حادة بين تلك الحقب والعصور؛ وهذا التوسع في حد ذاته قد أفادني بعد ذلك أيما إفادة، بتوسيع المدارك وتعميق النظرة التحليلية والرؤية الشاملة للأحداث.
ترجمت بعد ذلك كتاب المستشرق إدوارد وليم لين (القاهرة منتصف القرن التاسع عشر)، الذي صدر عام 2017م. ثم اتجهت بعد ذلك أكثر للترجمات في المجال العثماني بسبب افتقار المكتبة العربية إليها بشكل عام، فصدر لي عام 2019م كتاب (الدولة العثمانية وعلاقاتها الخارجية في عهد بايزيد الثاني)، تأليف سيدني نيتلتون فيشر، وكتاب (تاريخ الأتراك العثمانيين)، تأليف الدبلوماسي الإنجليزي إدوارد شيفرد كريسي.
وهناك عمل أعتبره أهم أعمالي حتى الآن لثقله الذي لا يبارى في المجال، هو كتاب المؤرخ الشهير ستانفورد شو (الإمبراطورية العثمانية وتركيا الحديثة) في جزأين، والذي سيصدر إن شاء الله قريبًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.. وهناك أيضًا كتابان آخران مهمان قيد النشر، هما (الجيل العثماني الأخير وصناعة الشرق الأوسط الحديث)، تأليف مايكل بروفانس؛ و(التاريخ السياسي لمصر والهلال الخصيب في العصر العثماني (1516-1922م)”، للمستشرق البريطاني المعروف بيتر هولت.
أما عن المؤلفات فمن أهمها كتاب صدر عام 2012م (استراتيجية الفتح العثماني)، وفي عام 2021م كتاب (العثمانيون وشرق المتوسط.. دراسة في أصول الصراعات الدولية على منطقة الشرق الأوسط).
التاريخ الإسلامي شاهد على التعدد والتنوع والثراء، خاصة على مستوى الأمم والحضارات التي أسهمت فيه، كيف جاء ذلك؟
لما كان الإسلام في الأصل هو الذي أسس للمساوة بين الأفراد والجماعات المختلفة، فلا فارق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؛ صارت الحضارة الإسلامية على هذا الأساس حضارة عالمية تستوعب كافة الثقافات والشعوب السابقة عليها.
لقد رأينا كيف دخلت الحضارة الفارسية ذات الماضي الثري العريق في كنف الإسلام الناشئ لتكون في غضون وقت قصير رافدًا من روافده الأساسية، بعد أن دخل الفُرس في دين الله أفواجًا عقب الفتوحات الإسلامية.. وكذلك حدث الأمر نفسه مع الشام ومصر وبلدان المغرب العربي والأندلس وغيرها. ورغم التنوع الثقافي الكبير بين تلك الأقاليم والبلدان وانتمائها لحضارات مختلفة فإن ذلك لم يكن عائقًا لتكوينها وحدة ثقافية واحدة، وترابطها في نسيج واحد في ظل الإسلام الجامع؛ حيث بدأت كل تلك الثقافات في الانصهار في بوتقته، لتتشكل معالم جديدة لها علاقة وطيدة بتعاليم الدين القويم ولغته وأصوله.. وهذا ما تفردت به حضارة الإسلام.
وإذا أردنا أن نعلم مدى عظمة هذا التفرد، يمكننا إلقاء نظرة على المؤلفات التي تصدت للمسائل الفقهية والعقائدية وحتى الكتب الجامعة للسنة والأحاديث، وسنجد أنها لا تقتصر على العرب الذين خرج فيهم نبي الإسلام ﷺ ونزل فيهم الكتاب، بل إن أهم الكتب بعد كتاب الله عز وجل – القرآن الكريم – قد ألفها من غير العرب لغة وجنسًا، مثل البخاري ومسلم والترمذي والألباني وغيرهم الكثير والكثير، وهذا دليل دامغ على عالمية هذه الحضارة وتعددها وتنوعها وتفردها بين الحضارات.
لكم اهتمام بالتاريخ العثماني.. كيف تنظرون إلى ما أضافه إنسانيًّا وحضاريًّا؟
التاريخ العثماني مع الأسف رغم كونه جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الإسلامي وحضارته، بل يعتبر أطول حقبه على الإطلاق، وتعتبر دولته من أكبر دوله العامة الجامعة للأمة.. رغم ذلك نكاد لا نعثر في المكتبة العربية على ما يغطي ولو جزءًا ضئيلاً يناسب هذا الامتداد الزمني الكبير البالغ نحو ستمائة عام، وذلك الامتداد المكاني الشاسع في قارات العالم القديم الثلاث، هذا فضلاً عن أن الحقبة العثمانية هي التالية مباشرة للعصر الأموي من حيث كم الفتوحات الجديدة التي أُضيفت لعالم الإسلام، خاصة وأن هذه الفتوحات تركزت في شرق القارة الأوروبية، حيث استعصى على المسلمين الأوائل الولوج فيها لنشر كلمة التوحيد.
ويؤسفني القول إن الدراسات الغربية التي تغطي هذه الحقبة من تاريخنا تكاد لا تترك شاردة ولا واردة إلا وتطرقت إليها بالبحث والتدقيق، حتى ولو كان كثير منها قَصَد في الأساس دراسة عدو كانت له صولات وجولات في مواجهتهم وتأثير عظيم على تاريخهم. وهذا ما جعلني بشكل أو بآخر أميل لترجمة المهم من هذه الدراسات، أولاً لمحاولة سد هذه الفجوة في المكتبة العربية، وثانيًا لنرى كيف ينظر الغرب من ناحيته لدولة إسلامية عظمى كان لها دور كبير في التاريخ الإنساني والتحولات الكبرى التي شهدها العالم إلى يومنا هذا.
إلا أن البعض يرجع هذا الضعف الذي تشهده المكتبة العربية في هذا المجال للفترة الاستعمارية من القرن التاسع عشر، عندما بدأت الدراسات التاريخية الحديثة تشق طريقها للوجود على ما أسسه الغرب من مدارس واتجاهات، وكتابته المعادية آنذاك لكل ما هو عثماني بسبب المصالح السياسية آنذاك، فضلاً عن الاهتمام بالفكرة القومية التي تفرق بين الأجناس والأمم وتَجُب كل ما يجمعها تحت ظل راية واحدة وهو ما كان عليه العثمانيون منذ نشأتهم.. كل ذلك كان له تأثير واضح على الكتابات التأريخية العربية التي اتجهت في مجملها إلى تعزيز الفكرة القومية بالحديث عن العرب وإنجازاتهم، والبعد تمامًا عما يتعلق بالتاريخ الجامع للأمة في ظل دولة واحدة.
أما ما أضافه هذا التاريخ العثماني، فلا يمكن أن يسعنا المقام هنا لتناول تلك الخصائص الباهرة التي خلفها العثمانيون في الجانبين الإنساني والحضاري؛ فمنذ دخولهم إلى القارة الأوروبية في القرن الرابع عشر الميلادي غيروا من شكل تلك المناطق الغارقة في الفوضى والإهمال، حتى إن الكثير من شعوب تلك المنطقة كانت تنتظر دخولهم بفارغ الصبر لتخليصهم مما كانوا يعانونه من وطأة الأنظمة الاستبدادية التي كانت تحكمهم منذ العصور الوسطى، هذا بالطبع غير معاناتهم من الضرائب المجحفة التي كانت تثقل كاهلهم حتى إن الكثير منهم كان قد هجر أراضيه فرارًا من الاضطهاد الذي مارسته تلك الأنظمة.. هذا غير الحرية الدينية التي كفلوها لتلك الشعوب، بدلاً من الاضطهاد الديني الذي كان يميز أوروبا العصور الوسطى.
وأما عن الشعوب الإسلامية، فحدث ولا حرج عن دخول العثمانيين المنطقة العربية في فترة حرجة ضعفت فيها كل القوى السياسية، حتى صارت البلدان العربية مطمعًا لقوى الاستعمار الغربي الناشئة وقتئذ إسبانيا والبرتغال، وكان الإسبان بالفعل قد وضعوا أقدامهم على ساحل الشمال الإفريقي بعد أن استولوا على غرناطة من العرب المسلمين أواخر القرن الخامس عشر، وبدأوا فعليًا بالتنكيل بأهل المغرب العربي، لولا وصول العثمانيين في الوقت المناسب ليتحدوا مع أهل هذه البلدان ويقفوا بالمرصاد للغزاة ويحرروا تباعًا ما استولوا عليه من تلك الأراضي.. فضلاً عن دورهم الحاسم في إنقاذ ما تبقى من مسلمي الأندلس من براثن محاكم التفتيش، ونقلهم وتوطينهم والاستفادة من خبراتهم في كثير من المجالات.. ولو كنا نتحدث العربية حتى الآن فبفضل الله الذي سخر العثمانيين لحماية هذه البلاد.
الاهتمام العربي بالتاريخ العثماني لا يتناسب مع امتداده الكبير
وإذا تطرقنا سريعًا لما أضافوه من الناحية الحضارية والفكرية والثقافية فيكفينا أن نعلم أن عالمـًا عثمانيًّا واحدًا في الملاحة والجغرافيا هو بيري ريس، كان له فضل السبق في رسم خريطة العالم بمنتهى الدقة كما هي عليه اليوم دون زيادة أو نقصان، حتى إن المؤرخين الغربيين يقولون إنها مطابقة لخرائط الأقمار الصناعية، مما فتح بابًا واسعًا من الجدل حول المكتشف الحقيقي للأمريكتين.. وكذلك كانت إسهاماتهم في كثير من العلوم العقلية والنقلية قبل أن يبدأ عصر النهضة في اكتشافاته، حتى قيل إن العثمانيين لهم فضل كبير في الانطلاقة التي شهدتها أوروبا في ذلك العصر.
صدرت لكم ترجمات تاريخية.. هل تختلف مناهج المستشرقين فيما بينهم، عند تناولهم التاريخ الإسلامي؟
بالفعل عالم الاستشراق عالم واسع، ورغم ما حظي به في الشرق على وجه الإجمال من سمعة سيئة، نظرًا لما يشوب نشأته وتاريخه من شبهات، إلا أننا لا يمكننا التعميم بأي حال؛ فكما خرج مستشرقون كثر من العباءة الاستعمارية الغربية، وكان لهم أهداف غير علمية تتعلق بصراعات النفوذ والمصالح السياسية، كان هناك القليل ممن تجردوا بالفعل لخدمة الفكرة وكشف الستار عن الحقائق التاريخية بموضوعية دون تحيز أو محاولة إثبات رأي مسبق.
وقد خبرت ذلك على سبيل المثال مع مستشرق مثل ستانلي لين بول، الذي رغم أنه إنجليزي عاش في عصر كانت فيه بريطانيا تتقدم الإمبريالية الغربية الغازية للعالم لنهب ثرواته واستعباد شعوبه، إلا أنه لم يتأثر بالفكرة التي تأثر بها الكثير في خضم رحلتهم مع الكتابة والتأريخ في ذروة الحقبة الاستعمارية، أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على وجه التحديد.. فكان كتابه الذي ترجمته منذ عشر سنوات (تاريخ مصر في العصور الوسطى) شاهدًا على استقائه للمعلومات من مصادرها الاصلية بحنكة تشي بفهمه العميق وسعة اطلاعه وموسوعية ثقافته؛ أما كتابه (صلاح الدين) الذي تابعت ترجمته حتى خرج للنور هذا العام، فكان مثالاً يحتذى به في التأريخ لحقبة شائكة لم يوفق الكثير في رسم أحداثها، وهي حقبة الحروب الصليبية، حتى جاء رصده لشخصية جدلية عند الغرب مثل شخصية صلاح الدين الأيوبي، دليلاً آخر على تجرده في سبيل تسليط الضوء على الحقائق كما كانت دون زيادة أو نقصان؛ فوضع صلاح الدين في مكانته اللائقة في التاريخ، وصار كتابه هو العمدة في مجاله وأساسًا بنى عليه من أتى بعده من المؤرخين، الشرقيين منهم والغربيين.
ما الذي تضيفه لنا الدراسات الاستشراقية التاريخية؟
كما ذكرتُ، كانت الدراسات الاستشراقية تختلف في مناهجها ومراميها.. فلو استبعدنا تلك الدراسات التي كان لها أهداف خبيثة معينة لا يتسع المجال لذكرها، لوجدنا أنه لايزال بين أيدينا تراث ضخم من الأعمال التي درست ورصدت وحللت بل وأخرجت للنور الكثير من تراثنا الفكري الإسلامي عامة والتاريخي على وجه الخصوص.
منذ مستهل العصر الحديث، انبثق من عصر النهضة في الغرب، الكثير من الباحثين والمؤرخين والمهتمين الذين فتشوا ونقبوا عن كل شاردة وواردة تتعلق بالشرق وتاريخه، حتى إن الكثير منهم جاء إلى أرضنا تحت مسميات كثيرة، مثل بعثات استكشافية أو إرساليات أو حتى كتجار، منهم من أخفى هويته الحقيقية ليستطيع التجول والإقامة دون أن تلحقه شبهة التجسس وما إلى ذلك؛ مثل إدوارد وليم لين، ذلك الإنجليزي الذي شغف بالمشرق فجاء إلى مصر في النصف الاول من القرن التاسع عشر، ليمكث بها سنوات متخفيًا في شخصية مسلم، فجاب الآفاق وجمع المعلومات والمخطوطات وخالط أهل البلد، ليخرج بعد ذلك أعمالاً وثّقت لنا هذه الحقبة كأفضل ما يكون، وقد ترجمت له كما ذكرت كتاب (القاهرة منتصف القرن التاسع عشر).
الدراسات الاستشراقية تختلف في مناهجها ومراميها
ما الذي دفعكم لإصدار كتابكم (من روايات التاريخ الإسلامي)؟
كما ذكرت في مقدمته، رغم أن بطون أمهات الكتب العربية تزخر بآلاف مؤلفة من الحوادث التاريخية والآثار والتراجم، إلا أنها مع الأسف لا تصل إلى القارئ العادي، وقد يصل بعضها عن طريق وسيط من المؤرخين المعاصرين، وذلك بسبب صعوبة قراءة المصادر العربية القديمة، ويكون في الغالب مما يتعلق بشكل مباشر بالحوادث السياسية والاجتماعية التي تشكل من وجهة نظرهم ملامح التاريخ، أما المؤرخون القدماء بحساسيتهم المفرطة وحبهم للتأريخ في حد ذاته فلم يدعوا شاردة أو واردة عرفوها أو عاينوها إلا ودونوها بكل دقة وتفصيل.
لهذا السبب وجدت أنه من الضروري واللازم وصول الكثير من هذه الروايات التاريخية على طريقة من رواها من الأقدمين إلى القارئ غير المتخصص، ليس فقط للمتعة والطرافة التي يشتمل عليها الكثير منها، ولكن أيضًا لما فيها من تفاصيل غاية في الأهمية عن شخصيات وأحداث يمكن أن تكون هامشية في التاريخ، لكن يمكننا مع ذلك أن نتبين من خلالها الكثير من ملامح الحياة في العصر الإسلامي وكأننا نعيش فيه.
كيف ترون دور التاريخ في النهوض الحضاري؟
التاريخ هو أبو العلوم، وهو العلم الوحيد الذي يدخل في إطاره أي علم آخر؛ فلا يمكن لعالم طبيعة أو فيزياء أو فلك أو أحياء على سبيل الأمثلة أن يخترع أو يطور أو يكتشف جديدًا في علمه، إلا بعد أن يلم بتاريخ ذلك العلم وتطوره وتاريخ شخصياته المؤثرة وما قدموه في سبيل تشكيله وتطويره.. فما بالنا بتاريخ البشرية، الذي يقدم حيوات وخبرات آلاف وملايين البشر الذين عاشوا على هذه الأرض، وما يرتبط بهم من صراعات وأحداث ودول وحضارات وعلوم.
ولو نظرنا نظرة إلى كتاب الله الخاتم سنجد أن أكثره يستشهد بأحداث التاريخ لما فيها من عبرة وعظة، فضلاً عن أن الله سبحانه يبلغك من خلالها بنواميسه في خلقه وقواعده التي أرساها في تتابع الدهور والأمم، لنتبين أن نواميسه لا تتبدل بتبدل هذه الأمم؛ فلو أن عاقلا تفكر على سبيل المثال في قصص الأمم البائدة ولماذا أهلكها الله لما حاول تكرار ما حدث منهم حتى لا يهلك بما أهلكهم.
وهذا ينطبق على كل مواقف التاريخ وأحداثه، لو تعلمناها جيدًا فلربما تلافينا الكثير من الشرور التي كان فيها الهلكة على أصعدة شتى، وفي نفس الوقت يمكننا أن نأخذ بأسباب الرقي الحضاري التي تركها لنا التاريخ مرارًا كإثبات متكرر لا مراء فيه على سبل التقدم والنهوض، كطلب العلم وتسخير كل الوسائل للنهوض به وتوجيه كل الإمكانات والطاقات له كأولوية عظمى، وهو ما تقوم به الآن دول كثيرة صار لها شأن به بعد أن كانت في ذيل الأمم، وهذا ما نأمله لأمتنا أن تتعلم من تاريخها وتنظر فيه مليًّا علها تجد طوق النجاة المفقود.
فزتم عام 2015م بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي (فئة الترجمة من اللغة الإنجليزية إلى اللغة العربية).. ما ملابسات هذا الفوز؟ وماذا يمثله لكم؟
لقد جاء هذا الفوز في وقت لم أتوقعه تمامًا، لأنني كنت قد انتهيت للتو من مناقشة رسالتي لنيل درجة الدكتوراه.. هذا فضلاً عن أن هذه الجائزة كانت عن أول عمل مترجم كنت قد أنجزته قبلها بعام واحد، وهو كتاب (تاريخ مصر في العصور الوسطى)، الذي سبق وأن أشرت إليه.
هذا الكتاب كنت قد قضيت في إنجازه نحو ثلاث سنوات، في عمل مكثف، في نفس وقت إعدادي لرسالة الدكتوراه، وهذا ما يدهش البعض، إلا أنه كان محفزًا لي وليس عائقًا؛ مع أنني لم أقم بترجمته فحسب، بل حققته بشكل دقيق وعلقت على ما ورد فيه، باعتباره كتابًا قديمًا مر على طبعته الإنجليزية الأولى أكثر من قرن، فقد صدر عام 1901م، ثانيًا لأنه مختصر إلى حد ما رغم معلوماته المركزة التي تحاول تناول فترة زمنية طويلة بلغت نحو تسعمائة عام في إطار صفحاته المحدودة التي لم تتجاوز الأربعمائة.
فوزي بجائزة الشيخ حمد للترجمة أكد لي أن جهودي محل تقدير
لذلك ألقي على عاتقي مجهود كبير حتى يصل الكتاب بصورة مكتملة صحيحة تفيد كل باحث وقارئ في عصرنا الحالي مهتم بهذه الحقبة من تاريخنا، فلم أدخر وسعًا في بذل جهد بحثي مكثف بجانب الترجمة الدقيقة، فأضفت ما يمكن إضافته من معلومات، وأشرت إلى ما تم تحديثه منها بناء على ما خرج للنور حديثًا من دراسات أو مخطوطات، وكذلك أحلت إلى ما يمكن الإحالة إليه من مصادر أصلية أو مراجع حديثة جزئية وعامة، كل ذلك بالطبع في حواشي الكتاب، وهو ما أدى إلى مضاعفة حجمه تقريبًا مقارنة بالنسخة الإنجليزية.. حتى إنني سمعت مؤرخًا علق على هذا بأنه مجهود قد أحيا الكتاب من جديد، بما لا يقل بحال عن مجهود مؤلف الكتاب الأصلي، وهذا ما أدى بفضل الله ومنته إلى بلوغ العمل ما لم أتوقعه من انتشار وتقدير، ومن ثم ترشيحه لهذه الجائزة الكبرى ثم الحصول عليها.
وبالطبع كان هذا الفوز إشارة لي بأن محاولاتي هذه محل تقدير على المستوى العام، ومن الأوساط الثقافية المرموقة في عالمنا العربي على وجه الخصوص، وهو ما ترك عندي عظيم الأثر في سبيل مواصلة مشروع حياتي بل والتفاني فيه بما يوفقني الله إليه من جهد وعمل، وأسأله تعالى أن يمدني دائمًا بتوفيقه ومعيته، فهو من وراء القصد وهو وحده يهدي إلى سواء السبيل.