أوضح الدكتور محمد عبد الله الشرقاوي، أستاذ الفلسفة ومقارنة الأديان بكلية دار العلوم بالقاهرة، أن الاستشراق امتد في الزمان على تاريخ طويل لأكثر من ألف عام، وامتد في الجغرافيا على رقعة كبيرة شملت العالم الغربي القديم والحديث، وكان له تأثير بالغ على التحولات الكبرى الحضارية في الغرب.
جاء ذلك خلال محاضرة الشرقاوي في الأمسية الثانية عشرة لـ”صالون عبد الحميد إبراهيم الزمبيلي”، بالقاهرة، بحضور نخبة من المفكرين والباحثين؛ منهم د. عمرو شريف، د. كمال حبيب، د. فاطمة إسماعيل، د. سامية سلام، الناقد خالد جودة، الروائي م. محمد خليل.
وذكر الشرقاوي أن الاستشراق في بدايته كان يهدف إلى رسم صورة سوداء كالحة السواد عن الإسلام، ثم أخذ يمر بمراحل وتخفَّف رويدًا رويدًا من هذا الإرث، وإن ظلت رواسبه باقية بدرجة ما، حتى عند المستشرقين المنصفين.
وأشار، ومن خلال تجربته الشخصية، إلى أن كثيرًا من المستشرقين حينما يناقَشون بمنهجيتهم وبموضوعية يبدأون في مراجعة أنفسهم.. لافتًا إلى أن الاستشراق كان له فضل كبير في حفظ جانب مهم من التراث الإسلامي، وذلك بحماية المخطوطات وصيانتها ونشرها وتحقيقها، بينما كان العالم الإسلامي قبل قرنين أو ثلاثة لا يعتني بذلك، وتعرضت مخطوطات كثيرة للضياع والإهمال.
منهجية محددة سلفًا
وأوضح أن الاستشراق هو دراسة الغربيين للإسلام من كل زواياه، من تاريخ وحضارة ودين وتشريع وثقافة وأدب، لكن بمنهجية محددة سلفًا، وبهدف صناعة صورة مشوَّهة لدى المواطن الغربي عن الإسلام وشريعته وشخصية الرسول ﷺ، وعن كل ما يتصل بالإسلام.
وأضاف: كانت الكنيسة هي المسيطرة على الغرب سيطرة تامة، فحاولت أن تحمي أبناءها أو رعاياها من جاذبية هذا الدين. ونحن لا نتكلم بهذا لتجميل الصورة عن الإسلام ولا لتوريث العداوات، ولكن لنفهم تأثير الاستشراق على علاقة الغرب بالشرق الإسلامي.
وتابع: كان المواطن المسيحي الغربي هو المقصود بخطاب الاستشراق عند نشأته، رغبةً في تحصين هذا المواطن من الإسلام، وليكون كارهًا لهذا الدين وخائفًا منه؛ فاجتمع على المواطن الغربي المسيحي الكره والخوف من الإسلام.
استشراق الكنائس والأديرة
وأشار أستاذ الفلسفة ومقارنة الأديان إلى أن الاستشراق مرَّ بمراحل، كشأن أي أمر من الأمور، وأنه في مرحلته الأولى (استشراق الكنائس والأديرة) كان يقوم عليه الرهبان والقساوسة في الأديرة، وبقي في هذه المرحلة لثلاثة قرون أو أربعة.
وأضاف: النموذج الأبرز على ذلك دير Cluny الذي كان يقع في فرنسا وعلى أقرب نقطة إلى الأندلس/ إسبانيا، وبمساحة واسعة جدًا، ويضم قرابة 10 آلاف راهب؛ وكانت فيه النشأة الحقيقية للاستشراق على أيدي الرهبان، وفيه تم التخطيط للحروب الصليبية، ومن أشهر رهبانه البابا (أوربان) الذي أطلق صيحات الدعم وأعلن الشرارات الأولى لهذه الحروب.
استشراق الجامعات
وأوضح د. الشرقاوي أن المرحلة الثانية للاستشراق (استشراق الجامعات)، بدأت في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، عام 1312م؛ حينما اتخذ المجمع الكنسي الدولي بفرنسا قرارًا مهمًا للغاية، أثّر تأثيرًا كبيرًا علينا، وهو السماح للجامعات الغربية الكبرى بتأسيس خمسة أقسام لدراسة كل ما يتعلق بالإسلام. وكان “روجر بيكون” أحد العرّابين لهذا القرار؛ فانتقل الاستشراق من “مرحلة الهواة” إلى مرحلة “المتخصصين”، أي استشراق الجامعات، بما يعنيه من وجود مناهج ومراجع وميزانيات وسوق عمل بعد ذلك.
وأشار إلى أنه إثر ذلك تم نقل عشرات بل مئات المخطوطات من العالم العربي والإسلامي، إلى هذه الجامعات، حتى صارت كتب كثيرة لا توجد منها نسخ إلا في المكتبات الغربية، يتم اكتشافها هناك ثم تعود إلينا!و كانت الكتب تُدرَّس في البداية باللغة العربية، ثم بطريقة الصفين: صف بالعربية وآخر بالترجمة، ثم دُرِّست بالترجمة وحدها. وهذا أحدث نهضة هائلة عظيمة بالغرب. ومن الطريف في تلك المرحلة أنهم قدموا لنا، ومن حيث لايدرون، خدمة كبرى حيث وفروا لهذه المخطوطات الحماية والحفظ والفهرسة والدراسة، وكان الاستشراق الأكاديمي، استشراق الجامعات، أفضل حالاً من سابقه.
وتابع: ثم جاء ما عُرف بـ”الإصلاح الديني”، والذي أعتبره إصلاحًا اجتماعيًا وإداريًا فحسب، ثم انتُزعت صلاحيات البابا في القرن السادس عشر، بعد قرابة قرن من (الاستشراق الأكاديمي)؛ فشعر العلماء والباحثون بالحرية في الإنتاج العلمي، لكن الشعب انقسم إلى قسمين: الكاثوليك والبروتستانت، وكان هذا له تأثير في الإصلاح الديني والكشوفات الجغرافية وتوسيع أوروبا على حساب العالم. فتخففوا من سلطة الكنيسة لدرجة كبيرة، وكان مجال الحرية أوسع لدى الباحثين والعلماء.
الإصلاح الفكري أو المنهجي
وذكر الشرقاوي أن تلك الفترة حدث فيها تغير مهم، وهو فتح القسطنطينية، عاصمة البيزنطيين، وحاول العثمانيون مساعدة البروتستانت على النجاح. ثم في القرن السابع عشر انتهت سيطرة الكنيسة، وحدث “الإصلاح الفكري” أو “الإصلاح المنهجي”، أي طرق التفكير والبحث العلمي، للتخلص من سلطة أرسطو، الذي كانت الكنيسة قد ألبسته رداءها؛ فطرحوا سؤالاً، استعرناه لاحقًا: لماذا يتأخر الأوروبيون ويتقدم غيرهم؟
وأوضح إلى أن الغربيين في إجابتهم على هذا السؤال انتهوا إلى أن السبب هو طريقة التفكير؛ فظهر فرانسيس بيكون واقترح المنهج التجريبي والاستقرائي، وانتقد أرسطو، وجاء سبينوزا ونيوتن فحدثت نهضة علمية هائلة، نتيجة تغيير المناهج ووَضْع منهج أرسطو في وضعه الصحيح.. بينما كنا في هذا القرن السابع عشر نهبط بخطوات سريعة.
وأضاف: هذه النهضة العلمية تأسست عليها ثورة صناعية وتكنولوجية هائلة اقتضت إيجاد الأسواق، والبحث عن المواد الخام، وتوفير الأيدي العاملة، مما أنتج عندهم القوة والثروة.
استشراق التنصير والاستعمار
وأشار إلى أن هذه الفترة أعقبها دخول الاستشراق في مرحلته الثالثة (مرحلة استشراق التنصير والاستعمار)؛ حيث كان من آثار التنوير ابتعاد الناس عن الكنيسة، فكانت الكنيسة تحتاج إلى تعويض هذا؛ فحدث تحالف بين الاستشراق والتنصير، فكان المستشرق منصِّرًا، والمنصر مستشرقًا، وأشهر هؤلاء زويمر الذي أسس “مجلة العالم الإسلامي”.. وخضع العالم الإسلامي كله تقريبًا للحركة الاستعمارية.
ولفت أستاذ الفلسفة ومقارنة الأديان إلى أن الاستشراق في هذه المرحلة غيّر زبائنه؛ فأصبحنا نحن العرب والمسلمين زبائنه، بدلاً من المواطن الغربي الذي كان هو المستهدَف أولاً، وأصبحنا نتأثر بالاستشراق في كل شيء حتى في بعثاتنا الدراسية إلى هناك، وأن أوروبا وحدها أسست 50 قسمًا ومركزًا للبحث في الإسلام، وحدثت أشياء عجيبة في اهتماماتهم حيث أصبحوا يدرسون كل شيء عنا.
وتابع: أصبحنا بحاجة ماسة للغرب، والدراسات التي تجري هناك مهمة حتى الكتب التي تطعن في الإسلام، فهي لا تخلو من فائدة لأنها تنبهنا إلى أن تراثنا به مسائل كثيرة تحتاج لإعادة نظر، ولا أقول إنها تجاوزها الزمن، ولكنها كانت اجتهادات بنت زمانها؛ فمثلاً، ما استفدناه من (تاريخ القرآن) لتيودور نولدكه أفضل من كثير من دراسات كتبها مسلمون.
الاستشراق الجديد
وذكر د. الشرقاوي أن المرحلة الرابعة للاستشراق بدأت بدخول “المدرسة الأمريكية” على الخط، فيما عُرف بـ(الاستشراق الجديد)، أو (ما بعد الاستشراق)، أي بمعناه التقليدي الكولونيالي. وذلك في منتصف القرن العشرين، 1950م، بعد الحرب العالمية الثانية؛ فيمّم كبار المستشرقين وجوههم إلى واشنطن، وتأسست مراكز بحثية كثيرة مثل (راند).
ورصد الشرقاوي تحولاً كبيرًا في مسيرة الاستشراق، حيث غير الأمريكيون العقلية الاستشراقية، فبعد أن كانوا يهتمون بـ”دراسة النص- الإسلام”، وبتحليل النصوص (الفيلولوجيا)، انتقلوا إلى “دراسة الواقع- المسلمين” (السوسيولوجيا)، وأصبحوا يأتون إلينا ليدرسوا كل شيء عندنا، وأُنشئت مئات المراكز التي تعمل ليلاً ونهارًا، ومكتبة الكونجرس لها مندوبون في عالمنا العربي لشراء الكتب التي تصدر حديثًا لإرسالها إلى هناك لدراستها وإتاحتها للباحثين.
وأشار إلى أن التغير الذي أحدثه (الاستشراق الجديد) الأمريكي هو تغير شكلي؛ فالمستشرقون تحولوا إلى “مستعربين”، والاستشراق تحول إلى “دراسة الإسلام” أو “الدراسات الإسلامية”، تمامًا كما تحول مصطلح البلاد العربية والإسلامية إلى “الشرق الأوسط”.
وخلص د. الشرقاوي إلى أن الاستشراق لم يكن على هامش الصراع الغربي مع الشرق، وإنما أحدث تحولات كبيرة، وإنْ انضمت إليه عوامل أخرى؛ وأننا إذا كنا بحاجة لدراسة الغرب كما يدرسنا فإننا لسنا مُهيئين الآن لذلك، ولهذا تبدو الدعوة إلى “الاستغراب” كرد فعل على “الاستشراق”، بينما نحتاج إلى الفعل وليس إلى رد فعل.
التقويم بإنصاف
بدوره، أوضح د. حسام الزمبيلي، رئيس الصالون، أستاذ طب وجراحة العيون، أهميةَ دراسة الاستشراق، وتقويم جهوده بإنصاف، والاستفادة من الحضارة الغربية عمومًا.
وبيّن أن الاستشراق كان له تأثير كبير في تكوين العقلية الغربية عن الإسلام والمسلمين، وأثر في عموم الغربيين، حتى تكونت لديهم صورة مشوهة عن عالمنا العربي والإسلامي.
وأشار “الزمبيلي” إلى أن علينا تصحيح هذه الصورة بخطاب هادئ معتدل، يمد الجسور مع المنصفين، وأيضًا من خلال تصحيح واقعنا والنهوض به.
الشرقاوي مرجعية
من ناحيته، ذكر د. محمد صالحين، الأمين العام للصالون- أستاذ الفكر الإسلامي بدار العلوم، أن الدكتور الشرقاوي له كتب مرجعية وجهود علمية في دراسة الاستشراق، وفي إعادة تأسيس علم مقارنة الأديان في الجامعات المصرية والعربية والإسلامية الدولية، وآخر مؤلفاته عن: (موريس بوكاي)؛ الذي نشره معهد العالم العربي في باريس، مشاركةً مع مؤسسة جائزة الملك فيصل العالمية.
وأكد أن “الشرقاوي” أستاذ متمكن في علوم الاستشراق، فضلًا عن أنه بحاثةٌ منهجيٌّ، لا يصدر في آرائه العلمية إلا عن قناعات ذات برهان، أو دليل، أو- على الأقل- شاهد صحيح، وهذا بدوره أدى إلى كونه منصفًا، لا يقبل الاستشراق برمته، ولا يُدينه بضربةِ لازبٍ، بل يقبل منه ما هو جدير بالقبول، ويرفض منه ما حاد عن الجادة، وتنكب سواء السبيل.
وتابع: الدكتور الشرقاوي رئيس قسم الفلسفة الإسلامية الأسبق بدار العلوم، ونائب رئيس الجامعة الإسلامية بإسلام آباد الأسبق، والأستاذ بالعديد من جامعات السعودية، وقطر، وباكستان، والمحاضر في العديد من الجامعات الدولية؛ مثل: أوكسفورد، وبرلين، وتوبنجن، وجوتنجن، وزيورخ، وسيدني، وملبورن، وكوالالمبور، والفاتح، ومرمرة، وتورجوت أوزال، ومجلس العموم البريطاني، وكنيسة ويست منستر في لندن.
وأشار “صالحين” أيضًا إلى أن الشرقاوي عضو بالعديد من الجمعيات العلمية والفلسفية ومراكز البحوث، في مصر، وخارجها، وصاحب مشروع مركز الدوحة الدولي لحوار الحضارات، وعضو اللجنة العلمية لمؤتمر الدوحة الدولي لحوار الأديان، وقد شارك في العديد من المؤتمرات الإقليمية والدولية، وقدم فيها أوراقًا بحثية باللغتين العربية والإنجليزية.