• القراءة الحضارية قراءة علمية عملية مبنية على تصوّرات مستفادة من صريح التنزيل
• الخطاب السُّنني يقدّم أجوبة للواقع في الواقع وليس في العالم الافتراضي
• يغلب علينا في الميدان الفكري الاشتغال على الأسئلة الجزئية المضيعة للطاقات!
• هناك محاولات لجعل الحركة الفكرية متعيِّشة على ما يترك من فتات في البيئات الغربية!
• “الفعالية” مسألة إيمانية تنطبع في النفس فتضبط التصوّر والتصرّف على حد سواء
ساحة الفكر الإسلامي المعاصر تزدحم بالكثير من القضايا والأسئلة، التي تتطلب جهدًا حثيثًا من المفكرين والعلماء والباحثين؛ بدءًا من رصد واقع هذا الفكر الإسلامي نجاحًا وإخفاقًا، إلى البحث في السنن الإلهية مفهومًا وأهميةً، إلى مدارسة كيفية أن يكون هذا الفكر أكثر فاعلية؛ ليؤدي الدور المنشود منه..
هذه الأسئلة وغيرها طرحها “إسلام أون لاين” على المفكر الجزائري الدكتور عمار جيدل، باعتباره أحد الأسماء المهمة الفاعلة في مسيرة الفكر الإسلامي المعاصر، داخل الجزائر وخارجها.. فإلى الحوار..
نود أن نعرِّف القراء بمسيرتكم الفكرية.
مرحبًا بكم، سعيدٌ بإجراء هذا اللقاء العلمي معكم، وأشكركم على إتاحة هذه الفرصة للتواصل مع أهلنا وأحبّتنا في كلّ بقاع العالم.
عمار جيدل جزائري الموطن، تدرّج في مراحل التعليم الأهلي والرسمي في بلده، بدءًا من المدرسة القرآنية في بداية التحصيل المبكر، درست كل مراحل التعليم من الابتدائي إلى المتوسط (الإعدادي) إلى التعليم الثانوي، ثم الجامعي في الجزائر، حيث نلت الإجازة (الليسانس) في العلوم الإسلامية، تخصص أصول الدين، ثم انتقلت إلى مرحلة الماجستير حيث تحصّلت على درجة الماجستير في التخصص نفسه ببحث عن شيخ الإسلام مصطفى صبري (رحمه الله)، وكتبت في دكتوراه الدولة عن الشيخ زاهد الكوثري من زاوية آرائه العقدية- المنهج والتطبيق- وانتسبت في وقت مبكر للتدريس في التعليم العالي، وكان ذلك في موسم 1988 من القرن الماضي.
من فضل الله عَلَيَّ أن باشرت تحصيل العلم على عدد كبير العلماء في جملة معارف الشريعة، منها: الفقه وأصول الفقه وعلم المقاصد، والحديث رواية ودراية، والتفسير بجملة مدارسه ومسالك مدارسته، فضلاً عن الفلسفة الإسلامية، والفلسفة القديمة اليونانية والفارسية والهندية والغربية الحديثة والمعاصرة، فضلاً عن علم الكلام والتصوف وعلم مقالات الإسلاميين (الفرق الإسلامية والطوائف)، والفكر الإسلامي، وعلم مقارنة الأديان وتاريخ الأديان..
استفدت من المشاركات الفكرية العالية في ميدان المثاقفة المعرفية والمنهجية؛ فحاضرت ونوقشت وناقشت في كثير من البلدان شرقًا وغربًا؛ منها على سبيل المثال أغلب جهات الوطن (الجزائر)، وتونس، والمغرب، ومصر، وسوريا، والأردن، والعراق، وتركيا، وقطر، وأذربيجان، والهند، وماليزيا، وإيران، وأندونيسيا، وباكستان… كما حاورت أساتذة في الفكر الإسلامي والفلسفة والتربية والسياسة من السودان، ولبنان، وموريتانيا، وروسيا، وأمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها.
مَن أبرز من تأثرتم به من المفكرين، قديمًا وحديثًا؟
وفقني الله أن تكون دراساتي المبكرة مرتشفة من منابع الفكر الجزائري والمغاربي الأصيل؛ فكنت منكبًا منذ مراحل التَعَلُّم ثم التعليم على مؤلفات شخصيات مثّلت منعطفات كبيرة في تاريخ التفكير النوعي عند المسلمين عمومًا وعلوم الشريعة على الخصوص؛ فكانت عنايتي مبكّرة بكتاب الشاطبي “الموافقات” تفقّهًا وتفقيهًا، وكتب ابن خلدون “المقدّمة” و”شفاء السائل”، و”الشفا” للقاضي عياض، فضلاً عن كتاب “العواصم من القواصم” لأبي بكر ابن العربي… كما كنت محظوظًا في الارتشاف من معين دقيق الكلام وجليله؛ منها على سبيل المثال لا الحصر جملة المؤلفات البيداغوجية المغاربية، ممثلة في مصنّفات محمد بن يوسف السنوسي (من الحفيدة إلى الكبرى وشرحها) فضلاً عن كتابي ابن زكري، وهي مصنفات عرفت بفكر موسوعي كلامي تزكوي.. فضلاً عن كتب متقدمي الأشاعرة والماتريدية، ومنها الهيام بكتاب “المطالب العالية” للفخر الرازي تفقُّهًا وتفقيهًا، والتمهيد للنسفي.
ولعلّ من أهمّ الكتب التي كان لها كبير شأن في صقل مواهبي التحليلية والنقدية هو كتاب: “موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين” لشيخ الإسلام مصطفى صبري، وكان ولعي الكبير بتلخيص هذه المصنفات وبكل ما يصب في الاهتمامات المعرفية الرسالية؛ فكان الفرصة سانحة لتلخيص كتب مثّلت عُمَد الدرس الكلامي والمقاصدي خدمة لطلبتنا في الجامعة الجزائرية، وذلك بتيسيرها وتقريب معانيها لهم؛ منها “المواقف” لعضد الدين الإيجي بشرح الجرجاني وحاشيتي الخيالي والسيلكوتي، وكتاب الآمدي “أبكار الأفكار”، وكتابه “الإحكام في أصول الأحكام”، وبهذا الصدد كنا نقرأ مع طلبتنا أصول الدين للبغدادي، والفرق بين الفرق، والتبصير في الدين للاسفراييني، وكتب السادة الإباضية ككتاب الكشف والبيان للقلهاتي، والدليل والبرهان للوارجلاني، وسهل بن يحي، والشيخ أطفيش (أصول الدين).. فضلاً عن كتب الشيعة الإثنا عشرية فرق الشيعة للنوبجتي، وآخر لابن بابويه القمي، والتجريد للطوسي.
منها أيضًا العناية بجملة ما كتبه سلطان العلماء العز بن عبد السلام؛ فكنت أوثر التعليق على نصوصه في المحاضرات مع الطلبة تنبيهًا إلى ثقافة الجمع عوض التشتيت، والرؤية الموسوعية للمعرفة بِبُعْد وظيفي بقصد نقل الباحثين من عبثية البحث للبحث إلى المقاصد الرسالية، إذ بها يسعف الباحثون إلى القصد في الاختيار والقصد في الإنجاز والاقتصاد في الأعمار..
ولهذا المسلك تجليات كبيرة في تاريخنا الحديث والمعاصر؛ فكان رائد الاستفادة منها الشيخ الرئيس عبد الحميد بن باديس (رحمه الله)، الذي ما زال ما بقي من منجزه المعرفي (آثار الشيخ ابن باديس) بحاجة إلى دراسة منهجية عميقة، هي حقيقة بأن تكون المنهجية الباديسية في اكتشاف إحداثيات الزمان والمكان ومسالك التعامل معها وفق ما يحقق الأهداف الكبرى في سياق التدافع مع استدمار يرمي إلى اجتثاث الهوية؛ كما يمثّل جهد صنوه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي عملاً علميًّا مميّزًا بحاجة إلى اكتشاف وتعريف العالم الإسلامي والغربي بحاسته النقدية العميقة، التي تكاد تماثل مشرط الجراح العارف بدقائق الخلل المعرفي والمنهجي الفردي والجماعي في البلاد الإسلامية، ليس هذا فحسب، بل ما كتبه في فلسفة الاستدمار (الاستعمار) ومسالك مدافعته والكشف عن حيله، يكاد أن يكون لا مثيل له في عصرنا، ولا يستغرب ذلك منه وهو وريث مسلك جمع بين ثقافة الدولة وثقافة الوصل التربوي العميق مسلك الأمير عبد القادر الجزائري، وفضلاً عن أساتذة كان لهم كبير الأثر في التنبيه إلى قضايا الأمة وعلى رأسهم مالك بن نبي، وعباس مدني، وعمار طالبي، والهاشمي التيجاني..
المبادرات الفكرية الأصيلة
ما القضايا التي تودون الاشتغال عليها في الفترة القادمة، أو طرحها أمام الباحثين؟
عرف عصرنا انكفاء التفكير الإسلامي على نفسه، واشتغل أهله بما شغل السابقين من غير تدقيق نظر في التدفقات المعرفية التي تشوّش على تحصيل المعارف المستفادة من الشريعة وفحصها وتمحيصها، كما عرف أيضًا شيوع الاقتباس الفكري؛ فكان الإعجاب في المستهل منهجيًّا ومعرفيًّا في القرنين الماضيين؛ والواقع أنّه نَسْجٌ عل وفق مسالك الإعجاب بالمقتبس عبر العصور، بدءًا من الفلسفة اليونانية وانتهاءً بالحداثة الغربية وما بعدها، ثم تحوّل به الأمر إلى أن انتهى لدى بعض المشتغلين بالفكر إلى أسلمة المقتبسات من الفكر الغربي، ومال بعضهم إلى خلع الشرعية على المستلفات من البيئة الغربية.
طبعًا نحن في هذا السياق في مقام الوصف، ولسنا في مقام التقويم، وإن كان لنا من إشارة عجلى إلى التقويم، فنقول إنّ صدق نيات بعض المشتغلين بهذه المعرفة قد يشفع لهم عند الله، ولكنّهم تركوا آثارًا سلبية على مستوى تسويق (من غير قصد منهم) تصوّرات مفادها عدم كفاية الإسلام في عُمَدِه الرئيسة ومصطلحاته المفصلية في حلّ مشكلات العصر، وخلصوا إلى أنّ أوفق ما يصلح- بحسب تقديرهم- هو الاستلاف ولكن بنسب متفاوتة تنتهي لدى البعض بجعل الحداثة الغربية آخر ما يمكن أن يجود به العقل البشري في كلّ ميادين المعرفة وتطبيقاتها (نهاية التاريخ)، وهذا يوجب عندهم تأويل التنزيل والخبرة المعرفية بما يخدم هذا المقصد؛ ومال فريق آخر إلى حل وسط، يوازن فيه بين مقتبس ومقتبس؛ وخلص فريق ثالث إلى عرض المستلفات على معايير الدين نفسه، فما لم يقبله التوحيد لا يصلح للاقتباس ولا للاستلاف، وعرفت أطروحتهم بأسلمة المعرفة، وما لبثت أن تطوّرت لدى فريق قريب منهم إلى وحدة المعرفة.
بناءً على ما سلف وفي ضوء التكرر المستمر للتجارب التاريخية المبنية على فلسفة الاستلاف، أرى من الضرورة التفتيش في خبرتنا المعرفية عن شخصيات أسّست للمبادرات الفكرية الأصيلة التي لا تهمل واقعها ولكنّها لا تُسْلِم نفسها للتدفقات المعرفية والمصلحية المتأتية من الغرب؛ فليس كلّ ما قاله “متقدم” تقدمًا بل قد يكون تخلّفًا ما بعده تخلّف، وليس كلّ ما قاله السابقون قديمًا لا يصلح للحاضر، بل الصلوحية من عدمها قيمة ذاتية وليست تاريخية، أن ينظر فيها من حيث الصحّة واليُسْر الذي تقدّمه والقيمة المضافة التي يمكن أن ينتفع بها مجتمعنا في أيامنا الحالية.
لهذا، أنصح نفسي قبل غيري بالتعريف بشخصيات المبادرات الفكرية الأصيلة عبر العصور؛ وهي ليست قليلة في تاريخنا الفكري والأدبي قديمًا وحديثًا، (ليس هذا موضع التعريف بها). وهذا يسعفنا عمليًّا على التأسيس لثقافة المبادرة الفكرية والمعرفية والمنهجية التي تؤسس للتحرّر من الاستلاف؛ لأنّ الذين يتبنون الاستلاف من المنظومات (الغالبة) هم درجات وأحيانًا دركات، ولكن قلّما يسلم المقتبس من ملحظ أن يفهم الإسلام بغير مصطلحاته، وتنتهي هذه الاختيارات لدى فريق إلى محاولات عرض الإسلام على ما استفيد من معايير المنظومة الفكرية الغربية الغريبة عن ديننا رؤيةً ومضمونًا ومنهجًا.
هناك محاولات معرفية ومنهجية عالية الدقة والتدفّق غرضها جعل الحركة الفكرية في الشرق متعيِّشة على ما يترك من فتات فكري ومنهجي في البيئات الغربية؛ ذلك أنّها استبعدت التدقيق في الجواب عن السؤال الآتي: هل كلّ التساؤلات المعرفية والفلسفية قابلة للتطبيق على معطيات معرفية ومنهجية مباينة؟ والواقع أنّه لا يكون ذلك مقبولاً إلاّ إذ قبلنا بالمركزية الغربية التي تعتبر نفسَها أساسَ العلم والمعرفة ومعيار الخيرية. وليس القصد من هذا الانكفاء على الذات، بل المقصود استعادة الذات التي في ضوئها يكون الاستلاف من عدمه؛ إذ حضور عُمَدِ النظر في الإسلام وجعلها مصفاة تعرض عليها المعارف المستلفة هو أساس المبادرة الفكرية المؤسسة على الرؤية الإسلامية لرحلتي الوجود والخلود.
وتطبيق هذه المعاني يتّضح بالمثال؛ مثلاً ما خالف التوحيد في بُعْدِه المعرفي والوجودي لا يمكن أن يكون صحيحًا ولا نافعًا، لهذا نحن بحاجة إلى استعادة القيم مركزها في قبول المستلفات أو رفضها؛ ونسعى إلى أبعد من ذلك فنرفض منهجيًّا ومعرفيًّا كلّ التصوّرات التي تستبعد البُعْد العملي للدين، أي أنّنا نقدّم خطابًا فيه الإصرار على تأكيد أنّ الإسلام يؤطّر الحياة في تفاصيلها العملية الفردية والأسرية والمجتمعية والدولتية والأمتية والإنسانية؛ أي هو برنامج للعيش به في شعاب الحياة، وليس من قبيل المعارف الجافة أو المجفّفة من أبعادها الوجودية المتجلية في التصرفات الفردية والجماعية للمجتمع الإسلامي.
“خطاب ضرار”!
إذا جئنا لواقع الفكر الإسلامي.. كيف ترصدونه، نجاحًا وإخفاقًا؟
للأسف، الميدان المعرفي المعروف بتفكير المسلمين في قضايا عصرهم، أو ما يُعرف في السرديات المعاصرة بالفكر الإسلامي أو التفكير الإسلامي، عرف خلطًا مقصودًا حينًا وغير واعٍ أحيانًا أخرى؛ فنُسِبَ إليه بعض المشتغلين بالفكر الإسلامي، وعَرَّفوا أنفسهم للعالم بأنّهم من المفكّرين الإسلاميين؛ بالرغم من أنّهم يرفضون الانضباط المعرفي والمنهجي بالضوابط المستفادة من صريح نصوص الإسلام، فأحدهم (مفكر إسلامي) يريد أن يطبّق على القرآن ما طبّقه سبينوزا على “الكتاب المقدّس”، وفعل المستحيل وبجهود جماعية مضنية (أنجزتها وتسهر على تنفيذها بأموال أمّتنا دوائر بحثية غربية أو عربية تمثّل زائدة دودية من زوائدها المنتشرة في الفضاء الشرقي العربي والفارسي و…) يريد أن يظفر بنسخة جديدة منه يستدرك بها على المصحف المتداول جيلاً بعد جيل منذ عصر التنزيل إلى يوم الناس هذا؛ ولهذا هم حريّون بأن يكونوا من المُشْغِلين عن الفكر الإسلامي! ويمكن موضوعيًا أن يصنّفوا في خانة المشتغلين بالفكر الإسلامي، ولكن لا يسوغ معرفيًّا ومنهجيًّا أن يعدّ مفكّرًا مسلمًا.
كما عرف ميدان “الفكر الإسلامي” شخصيات “فكرية” تجتهد في استصدار شهادة التفكير وحُسْن السيرة للفكرية من المنظومة الفكرية الغربية وخدمها في البلاد الشرقية؛ فترى أنّ الغربي “الغالب” هو الحقيق بأن يكون خليفة الله على الأرض، ويقدّم بهذا المعنى تصوّرًا غريبًا غريبًا بعنوان الإسلام؛ فتكون الخلافة عنده ليست رؤية عقدية إيمانية تثوي في الضمائر فتغيّر التصوّرات للوجود والإنسان والحياة، وتعيد صياغة التصرّفات، وتحمل صاحبها على تغيير نفسه وما ومن حوله وفق الأمر الإلهي؛ بل جعل هؤلاء الخلافة هي القوّة المعرفية وتطبيقاتها المادية ولا صلة لها بالتصوّر الإسلامي للحياة؛ وقد وجد هذا التصوّر سوقًا رائجة في بعض البلاد الشرقية لأجل التأسيس لـ”خطاب ضرار” ينقد كل صغيرة وكبيرة إذا تعلّق الأمر بالمستضعفين، ولكنّه يبلع لسانه إذا تعلّق الأمر بالمستكبرين المحليين والجهويين والدوليين؛ لهذا قلنا عنه إنّه “خطاب ضرار” غرضه صرف طاقات الأمة في المناكفات الماضوية لصرف الناس عن التدافع الفكري والسياسي والاجتماعي والمعاصر. وقد سقطت أسهم بعضهم وينتظر تآكل أسهم الباقين وفق المنظور السنني؛ لأنّ الباطل إن لم يجد ما يأكل أتى على نفسه.
عاصر هذا الاتّجاه خطابًا فكريًا ممايزًا يُعرف بـ”الحداثي”؛ جَعَلَ كلّ الدين ماضويًّا وتأويليًّا، لا يسلم منه معنى واحد هو محلّ اتّفاق؛ وهؤلاء اتّكأوا على المختلف فيه لنفي صريح التنزيل المتّفق عليه جيلاً بعد جيل، وأقصد ما كان محلّ إجماع المسلمين قاطبة (والحكم الأغلبي بالنسبة للظواهر الدينية والاجتماعية والإنسانية بل وحتى العلمية الصرف)، وبناءً عليه بشّروا بإسلامات منهجيًّا (الفقهاء، المتكلمون، المحدثون، الأصوليون،…) ومذهبيًّا (المعتزلة، الأشاعرة، الماتريدية، الشيعة الجعفرية، الشيعة الزيدية، الإباضية،…)، ومسلكيًّا (الظاهر “الإخبارية”، والباطن “العرفان والتصوف”)، وجغرافيًّا (الجزائري، المصري، السوري، التركي، السعودي، الإيراني، الأفغاني،…)… ويبدو أنّهم أوكلت لهم مهمّة منع اجتماع المسلمين ليكونوا قوّة مؤثّرة بشكل إيجابي في العلاقات الدولية، ومنعهم من اكتشاف ذاتهم الثقافية وفي حال اكتشافها يخطّطون بمالنا وسواعد من المحسوبين علينا في السياسة والفكر لمنع تحويلها إلى مصدر للطاقة والبذل لصالح الإنسانية.
فات هذا الفريق أنّ المذاهب والمناهج والأعراق والجهات لا يصحّ انتسابها إلى الإسلام إلاّ بوجود شيء مشترك بينهم جميعًا يصح بموجبه تسويغ النسبة (مذهب إسلامي)، والذي لا يكون كذلك إلاّ بتوفّر ما به تصح النسبة (التوحيد، النبوة، المعاد، صدق القرآن، الطبيعة العملية للدين، العبادة…)؛ واتّفاقهم يعني اجتماعهم على أصول عقدية وعبادية، وهذا الاتّفاق لا يعني تطابق آرائهم بل هم متنوّعون فيما يصح معه النسبة إلى الأصل مع التنوّع.
تحليل نقدي لدرس علم الكلام
وبناءً على ما سلف، نحن بحاجة إلى اشتغال الفكر الإسلامي بتحليل نقدي لدرس علم الكلام؛ الذي قصره النَقَلَة والناسجون على منوال علمائنا السابقين في الدفاع عن العقائد بالمعنى المتداول عند السابقين. والتنبيه الدقيق في هذا السياق يفرض إعادة النظر في هذا الاشتغال، هل نقصر النظر في هذا المقام على قضايا السابقين، نكرّرها هنا وهناك، أم أنّنا بحاجة إلى إعادة النظر في التعريف أولاً وثانيًا النظر في مُدَّعَى اليقين في علم الكلام ومستوياته، فضلاً عن ترتيب الخصومات وإخراجها من دائرة التراشق بين المنتمين إلى الملّة، وخاصة في ظل وضع راهن يريد لطاقات الأمة أن تتآكل فيما بينها، فيخرج عدوّ الجميع ظافرًا بهذا النظر العقيم لعلم الكلام. ولو نظرنا بعين فاحصة، وخاصة من زاوية نظرية المعرفة عند المتكلّمين، لأمكن التدقيق في مبتنيات علم الكلام من الناحيتين المعرفية والمنهجية، وهذا العلم للأسف ضحية عدّة اتّجاهات؛ منهم مذهبون لا يلتزمون بالحد الأدنى من النظر الموضوعي، جعلوا علم الكلام تُكأَة لكيل الاتّهام للمخالف، وكل ما يستندون إليه مبناه “لازم المذهب” الذي يصرّحون بأنهم لا يتبنونه لأنهم يُعْمِلون قاعدة “لازم المذهب ليس بمذهب”، ولكنّهم يخرمون القاعدة صباح مساء. ولو حرصنا على البحث الموضوعي لحلّلنا القضية من زاوية مباني المسائل والتدقيق فيها.
وبهذا الصدد كان يمكن الاستفادة من شخصيات منصفة في تاريخنا الفكري والأدبي؛ من القدماء (أبو حامد الغزالي، العزّ بن عبد السلام، الشاطبي، إبراهيم الكوراني)، ومن المعاصرين (جمال الدين القاسمي، والشيخ محمد الغزالي)؛ كما يمكن الاستفادة من محاولات عرض العقائد بشكل أجود يراعي حاجة العصر وأسئلته ومقتضيات عرضه، منها تجربة محمد المبارك في كتابه (نظام الإسلام العقيدة والعبادة)، وإسماعيل راجي الفاروقي في كتابه (التوحيد)، وفي المطارحات كتاب مولانا شيخ الإسلام مصطفى صبري (موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين وعباده المرسلين )، و(قصة الإيمان) لنديم الجسر، و… وقد عرف الفضاء الشيعي مؤلفات مهمّة في التدافع، منها ما كتبه بعض المتحررين إلى حدّ من التشيع الإمامي؛ منهم الدكتور علي شريعتي، ومحمد حسين فضل الله، وجعفر شمس الدين..
كما عُرِف العصر بأعلام يكتبون في الفكر الإسلامي أو ما يقرب منه، ولكنّها كتابة أشبه بالحوار مع نفسها (المونولوج)؛ كأنّها تريد أن تكشف للناس عن فهمها ولكن دون أن يستوعب الناس فهمها، وهي كتابات نالت قسطًا كبيرًا من التمجيد لما فيها إدهاش اصطلاحي أكثر ممّا فيها من قيمة معرفية مضافة.
قوانين تمتاز بالثبات
في البحث عن عوامل النهضة والحضارة… كيف ترون”السنن الإلهية”؟ مفهومًا وأهمية؟
“السنن الإلهية” هي القوانين الثابتة التي تحكم سير الإنسان؛ في شقه النفسي والعقلي والعاطفي، في بُعْدَيْه الفردي والجماعي، ثم الدولتي والأمتي والإنساني، ومن مشتملاتها السنن (القوانين) التي تحكم الكون بشقيه المادي والمعنوي. وهي قوانين تمتاز بالثبات، وما دامت هي أساس سير الإنسان والكون فلها أهمية أساسية في فهم الحاضر والتخطيط للمستقبل؛ لهذا فنحن مدعون لاكتشافها ثم الإفادة منها في مختلف مجالات الحياة، وهو ما يرمي القرآن الكريم والسنّة المطهّرة الصحيحة إلى تربية المجتمع عليه.
لهذا يعدّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة من أهمّ مصادر التعريف بسنن الله في الخلق؛ وهو منهج وظيفي يخلص إلى بيان المراد من تلك السنن، من خلال التأكيد على خلودها وثباتها في رحلة البشر في الكون، وهي تستوعب عوالم الإنسان والعوامل المحيطة بها، خدمةً وتسخيرًا.
من هنا كان القرآن الكريم مصدرًا مهمًّا في فهم تاريخ البشر وأفكارهم وتصرفاتهم الفردية والاجتماعية؛ فكان ما جاد به القرآن الكريم بمثابة درس مستمر دائم الحضور في الظواهر التاريخية البشرية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وقد أيّد استقراء التاريخ البشري هذه السنن، وجاء الفكر البشري القويم مؤيّدًا لها، وشاهدًا إضافيًّا على صدقها وصحتها المتأتية من كونها وحيًا يوحى، قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3، 4)، من هنا كان النص القرآني مؤسسًا للسنن يعضّده الواقع البشري.
عرّفنا القرآن الكريم سنن الصعود، ليسلكها العقلاء في صناعة الحاضر والتفكير الجيّد في صناعة المستقبل؛ كما عرّفنا في الوقت نفسه سنن النكوص والتخلّف والتقهقر، تنبيهًا للبشر قاطبة على ضرورة تلافيه؛، فهل تقتصر وظيفة السنن الإلهية على ما سبقت الإشارة إليه؟ أم إنها تتجاوز ما ألمحنا إليه؟
وبيّن أنّ الكتابة في السنن هي في أصل الوضع انخراط عملي في قلعة التدافع بكلّ إشكاله، وليس من قبيل الخطاب المتعالي الذي يؤسس للإدهاش النظري أكثر من التفاته إلى الواقع في تدافع قواه الحيّة وقوى أخرى (محلية، وجهوية ودولية) تريد اغتيال إرادة أمّة. ولعلّ مما ينفع مسلك العاملين على منع الأمة من تفعيل طاقاتها أن تعود الطاقات الفكرية إلى مرحلة جنينية في البذل النظري! فتعود بالأمة والمجتمع إلى إعادة اكتشاف البحوث النظرية المغرقة في التمجيد النظري، البعيدة عن وضع خطّة عملية تتفاعل إيجابيًّا مع معطيات الواقع الفكري كما هو، لا كما هو في أذهان المنظرين؛ لأنّ فكر التجريديين يناقش اتّجاهات فكرية في ذهنه أكثر من مناقشة تيارات فكرية في واقع التدافع بكلّ أشكاله. وقد تكون هذه السرديات عودًا على عقب إلى مؤسسة قائمة على الانتشاء في العالم الافتراضي، وهو اختيار قد يصادف هوى في عقول وقلوب الاستبداد وحليفة الفساد؛ لأنّه خطاب متعالٍ لا يقلق تيارًا مشاكسًا ولا يزحزح ظالمًا في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع. لهذا، قد تنتهي التيارات التجريدية إلى تيارات وظيفية- من حيث لا تحتسب- في سياق السكوت على الاستبداد وحليفه الفساد؛ لأنّ منظرين هذا شأنهم أبعد من أن يشغلهم فساد واستبداد واقعان، وقد يكون هذا الخط- من غير قصد من أصحابه- أحد أهمّ صوارف الطاقات في النظر والبُعْدِ عن التدبير في الوقت نفسه.
لهذا، ينتظر أن يعيد المشتغل بالسنن النظر في مشروع السنن من منظور سُنَني بحت، يدفعه إلى ترتيب الأولويات التي تخرج بنا من السرديات التجريدية إلى خطاب واقعي؛ لأنّ الخطاب السُّنني- بحسب تقدير- يقدّم أجوبة للواقع في الواقع وليس في العالم الافتراضي، أي ليس من قبيل الينبغيات (ما ينبغي أن يكون)؛ بل هو من قبيل الحركة في التاريخ، أي في الواقع بجملة إحداثياته الفكرية والسياسية والاجتماعية المتجلية في عالم التدافع اللحظي بكل تجلياته؛ أي هو حركة فيما يمكن أن يقع بناءً على تقدير المعطيات بأعلى قيمة ممكنة مع الاستعداد للتضحيات إنْ اقتضى الوفاء للأمة ذلك.
القراءة الحضارية
هل يمكن القول إنّ الاهتمام بـ”السنن الإلهية” هو فرع عن قراءة القرآن الكريم قراءة حضارية؟
الاهتمام بـ”السنن الإلهية” ليس فرع قراءة القرآن قراءة حضارية فحسب، بل من المقدّمات الأساسية التي بناءً عليها يكون التفكّر في كتاب الله بوصفه باعثًا على إقامة حضارة تستمد عناصر قوّتها من الرؤية التوحيدية المستفادة من كتاب الله.
القراءة الحضارية ترتكز أساسًا على الأبعاد الوظيفية الوجودية للإسلام. ويتعيّن أن يتحلّى الخطاب الحضاري بجملة من السمات؛ أوّلها البساطة، وثانيها الوضوح، وثالثها ترتيب الأولويات التي تستدعي استعادة العامل (الإيماني) الباطني إلى مركز الخطاب؛ إذ استعادته تيسّر بعث الفعالية والاقتصاد في الخصومات وربح الأوقات التي ينتظر أن تبذل في تحقيق المنجز الحضاري المنشود. وتحقيق المنجز الواقعي يسترعي العناية بالتكوين المعرفي والمنهجي القمين بتحقيق المقصود.
ولو شئت لقلت إنّ القراءة الحضارية هي القراءة العلمية العملية المبنية على تصوّرات مستفادة من صريح التنزيل تترجمها تصرّفات تُرى في شعاب الحياة، نراها خيرًا يبذل من الجميع للجميع؛ أي أنّ هذه القراءة تتوخّى بالمقام الأول تحقيق قيمة مضافة على مستوى البذل الجماعي في الخير العام للمجتمع والأمة والإنسانية؛ وهو النوع من التفسير يتقاطع من التفسير الموضوعي المبني على رسالة استعادة الأمّة مجدها بما صنع السابقون مجدهم، قال إمام دار الهجرة:” لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها”. فتكون هذه القراءة وسيلة فعّالة لاستبعاد النُسَخ المضروبة من المبادئ الإسلامية، التي يريد بها الاستبداد العالمي خدمه من الاستبداد المحلي استبعاد القراءة الحضارية والتركيز على القراءة التجزيئية الانتخابية التي تتفنّن في إحلال كلّ “فكر” يفتّت المُفَتَتَ الصدارة، ويخلعون على ممثليه صفات “العلمية” والقيادة الفكرية “الرصينة”. والواقع أنّ من تصدّر لهذه المهمّة كثيرًا ما يكون من قدماء الصالحين، ولكنّهم للأسف استعملوا للتأسيس للمؤسسات الضرار بقصد التشويش على الأمة ومن ثمّ الإنسانية نفسها.
ابن خلدون رائدًا
كيف ترون التأسيس الخلدوني، أو الإسهام الخلدوني، فيما يتّصل بـ “السنن الإلهية”؟
يُعَدُّ ابن خلدون رائدًا من رواد التحليل السُّنني للظواهر الإنسانية والاجتماعية، تجلّت في عنايته بفقه “العمران”، مستندًا إلى فكرة التعليل الشامل والكلي للظواهر الحضارية بجملة مكوّناتها؛ فيدقّق فيها من الناحية الفكرية فاحصًا ومُمَحّصًا ثم ناقدًا، فيدرس عناصرها الداخلية تَعَرُّفًا ثم يكشف عن الضوابط التي تحكمها تأسيسًا لقواعد التعامل مع القابل من المشكلات المشابهة.
وإعمال “السنن الإلهية” في تحليل الاجتماع البشري واكتشاف قوانينه وشروطه في الصعود أو النكوص، تطبيق علمي رصين يستبعد عشوائية التاريخ البشري عبر العصور؛ بل يمدّنا بقاعدة مفادها أن القوانين التي تحكم الخبرة البشرية مضبوطة تتكرّر باستمرار، عَلِمَها من عَلِمَها وجَهِلَها من جهلها، أو أعْمَلَها من أعملها وأهملها من أهملها؛ فهي ثابتة ليست متوقّفة في وجودها الخارجي على عِلْمِ من عَلِمَ أو لم يعلم، أو إعمال من عَمِل أو أهمل، بل لها وجود خارجي ثابت؛ وهذا يسترعي الاكتشاف والنسج على منوالها، لتلافي أخطاء الحاضر بما تتلافى به أخطاء الماضي، وصناعة المستقبل المجيد بقوانين تصنع المجد.
وهل” السنن الإلهية” حاضرة في الفكر الإسلامي المعاصر بالدرجة المطلوبة؟
يغلب علينا في الميدان الفكري الاشتغال على الأسئلة الجزئية، وبعضها صارف للأوقات ومضيّع للطاقات، وقد يكون بعضها مصطنعًا غرضه استبعاد الأمة عن اكتشاف ذاتها، فضلاً عن إقامة ألف ألف مشروع لمنعها من تفعيل ذاتها إن تيسّر لها اكتشافها؛ لهذا تتفنّن منظومة تزييف الوعي بعنوان الوعي أو صناعة الوعي المزيّف لمحاربة الإسلام بالإسلام، وذلك بنشر نسخة من الدين يحارب به الدين الذي أراده الله للإنسانية محقّقًا لمصالحها، ودافعًا عنها المفاسد المتوقّعة في حياتها الفردية والجماعية.
يتضايقون (أنظمة الاستبداد والمتحالفون معهم من رواد الفساد والإفساد) من الاهتمام بالتعليم وفق قاعدة السنن الالهية؛ لأنّها ترمي إلى التأسيس لبعث إسلامي عملي يسترد الأّمة من وضع خارج التاريخ، إلى وضع صناعة تاريخ يمجّد ذكرها عند الله ثم عند الناس.
والعود بالأمّة من وضع الاستقالة الطوعية إلى وضع الحضور في شعاب الحياة باسترداد الفعالية، لا يتمّ بغير ثقافة سننية حضارية؛ مبناها انطباع السنن في الضمائر وأنّها ليست من قبيل المعارف التي تستعمل للاستعراض، بل هي من قبيل القوانين التي يتعيّن معرفتها وتفعيلها والتحرّك بمقتضاها في كلّ شعاب الحياة.
السننية تثبيت القلوب على أنّ الانتصار أو الانكسار سنن يتعيّن تحصيلها معرفيًّا والتحرّك بمقتضاها في تفاصيل حياتنا الفردية والجماعية.
انتظار محال!
في مقال لكم بعنوان” الثقافة السننية وصناعة المستقبل”، قلتم:” تُعَدُ الكتابة عن الثقافة السننية ضرورة ملحّة في اللحظة الراهنة؛ وذلك لما تقتضيه أسئلة الواقع وسُبل التفكير في الإجابة عنها”.. نريد مزيدَ توضيح.
الواقع العالمي قائم على التدافع بين أهل الخير وأهل الشر، بين فريقين أحدهما يريد صلاح العالم وآخر يريد إفساده، وهذا ليس جديدًا، والتفاعل مع معطياته ليس جديدًا أيضًا؛ إذن، فكرة التفاعل مع الواقع لأجل إصلاحه السلمي التدريجي عُمْدَة من عُمَد الحركة الإيجابية في التاريخ، وهذه قاعدة مركزية في التفاعل السنني مع الواقع؛ نحن لا نتعامل مع واقع افتراضي، نحن مع واقع قد لا نرضاه، وقد يكون سيّئًا- وهو كذلك في حقيقة الأمر- واقع يتوجّب علينا العناية بإصلاحه. وانتظار صلاحه لنتحرّك، انتظار محال! ومن قال ننتظر صلاحه، نسأله: من يصلحه؟ وكيف يصلح؟ لا شكّ أن الناس لا يولدون فاسدين، ولكنّهم يصيرون كذلك في التاريخ بناء منظومة إيجاد الفساد والإفساد وتمنيته والتوريط في دهاليزه؛ وهذا يفرض تعدّد قلاع المرابطة، إذْ لا تغني إحداها عن الأخرى، مما يفرض تنوّع قلاع المرابطة وتعاونهم بإخلاص يجعل الفرد فيهم متمتِّعًا بأعينٍ وأبصار وقلوب وأرواح وطاقات بعدد الأفراد المخلصين؛ أي بالطاقات الجماعية لمجموع الأفراد.
وبيّن مما سلف أنّ الكتابة السننية ليست من قبيل التفكّه والإدهاش وإثارة الإعجاب، بل هي من قبيل تقديم حلول لواقعنا المتحرّك- أحيانا يتحرّك بمتغيّرات عشوائية، تفرض دراسة جملة الاحتمالات ذات الصلة بكل الأوضاع الممكنة- في قواه الاجتماعية والفكرية والسياسية، وهذا يفرض حركية دائبة في التصوّرات والتصرفات، وهذا يفرض إعادة صياغة دالة التحالفات وترتيب الأولويات الفكرية في التدافع مع الاستبداد وحليفة الفساد المحلي والجهوي والدولي، وهذا ما ينتظر تحقيق القول فيه على مستوى الفكري والبحث النظري، أما على المستوى التدبيري فهذا بحاجة إلى تطوير القدرات على التشكّل اللحظي لقوى التدافع والتربية وصناعة الوعي بما يسمح بفتح مساحات جديدة أو استعادة قديمة للحريات الفكرية والتعاون بين النزهاء من كلّ تيار فكري في الأمة الإسلامية شرقًا وغربًا؛ لأنّ معركة الحريات في العالم الإسلامي هي أمّ المعارك. ويعلم الداني والقاصي أن فكرًا مستندًا إلى التصوّر الإسلامي للحياة، تثوي فيه عناصر القوة بما يحمل في طياته من عناصر القوّة الذاتية؛ من هنا، فهو لا يحتاج أكثر من جو الحرية. وقد يقال إنّ الحرية وسط حيوي للتيارات الإلحادية وعبدة الشيطان، و… لكنّ الواقع أنّ التيارات المشار إليها وما شابهها لا تنتعش حظوظها في غير جوّ الفساد وحليفة الاستبداد، ولا شكّ أن الحريات مستويات، ولكنّ الحرية هي نفسها تملك من القوّة الذاتية التي تسمح بالاستدراك على النُسَخ المسوّقة باسمها (الحرية). لهذا، الحرية المبتغاة صيرورة وسيروة تطبع جميع مراحل التدافع الفكري والاجتماعي والسياسي.
كيف يمكن جعل الفكر الإسلامي المعاصر أكثر فعالية؟
“الفعالية” ليست مسألة فكرية بحت، ولكنّها لا تستبعد الفكر في النظر لاكتسابها وفهم معطياتها والتخطيط العملي لاستجلابها في شعاب الحياة. فعالية الفكرة مسألة عقدية بالمقام الأوّل أي هي أمر باطني وليس أمرًا فكريًّا صرفًا، ولهذا تجد المهتمين بالفكر- الفكرولوجيين- يجعلون- من حيث يشعرون أو لا يشعرون- العلاقة حتمية بين الفكر ومقدّماته المنهجية والمعرفية، بسبب إهمالهم لمعطى باطني آخر مفاده أنّ استجلاب النتائج بناء على المقدّمات ذات الصلة محض توفيق إلهي، مما يحيلنا على الافتقار إلى الله في أصل النجاح في التصوّرات والتوفيق في التصرّفات المطلوبة، وتمام التوفيق أن يعطيك الله النتائج بما يسرّك بما بذلت.
ومبنى هذا التصوّر أمر باطني عقدي مفاده، أنّك لست مالكًا لآلة التفكير بل هي أمانة إئتمنك (الله) مالكها عليها، فلا يحق لك التصرّف فيها أو بها بما يعود عليها أو عليك أو على غيرك بالضرر الواقع أو المتوقّع؛ كما يحيلك هذا التصوّر على ضرورة بذل كلّ ما ملّكك الله من قوى مادية أو معنوية فيما أمر وأن تبتعد عن توظيفها فيما نهى. وفي تفعيلها وفق هذه القاعدة مصلحة الإنسان (استجلاب مصلحة أو دفع مفسدة) في الحاضر والقابل، أي الدنيا والآخرة؛ ولكنّ هذه الفعالية تكون أنفع كلّما كانت مبنية على الإخلاص الجماعي للعلم بقصد التأسيس لنهضة أمّة- بصرف النظر عن قلعة المرابطة- فيكون للمجموعة قوّة تتجلى في كلّ فرد من أفراد المجموع.
أعود مرّة أخرى فأقول: “الفعالية” من حيث المبدأ مسألة إيمانية تنطبع في النفس فتضبط التصوّر والتصرّف على حد سواء، والإخلاص فيها يفرض معرفة معطيات الواقع، بما ييسّر بذل الأوفق والأفيد للمجتمع وفاءً بمهماتها الوجودية؛ فيكون مشروع التعاون بين كلّ العاملين ضامنًا للفعالية الجماعية. وبقدر إخلاصهم لفكرتهم ولبعضهم البعض، يكون التعاون، ويكون الوفاء بمتطلبات رسالة الإسلام للمجتمع.