قال تعالى : { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } (النساء: 82) يظن بعض المتربصين أنهم قد وجدوا اختلافاً كثيراً بين القرآن والعلم، ومن أكثر ما طعنوا به هو فيما ذكر عن ذي القرنين في سورة الكهف في الموضع الخاص “بالعين الحمئة “.
هم يقولون خطأ علمي سافر والقرآن يقول : {ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً”} والذكر أمر عظيم فيه العبرة والهداية والحكمة والإعجاز {“إنّا مكنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا * فأتبع سبباً}.
ذو القرنين قائد مؤمن صالح جمع بين قرنين… ومن بحثٍ غير منشور سابق رجح لدينا أن القرن في القرآن الكريم هو الحضارة, أو الأمة ذات الحضارة والنفوذ والقوة.
وقد مكن الله لذي القرنين في الأرض ليقوم بمهمته : { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج :41) فلا يكون تمكين من الله لأحد إلا لهدف وأمر مرتب محسوب فيه الإصلاح والتصحيح والإعمار.
وقد مكّن الله لذي القرنين في أرض محددة واسعة معرفة بال قد تكون قد امتدت على أغلب ما يسمى بالعالم القديم ومركزها في ملتقى القارات القديمة الثلاث “أوربا وأسيا وأفريقيا”.
والأسباب هي السبل إلى القدرات والتجهيزات والإمكانيات والمعارف الفعالة المؤثرة النافذة المعدة للوصول إلى غاية مقصودة.
{فأتبع سبباً}: فأتبع ذو القرنين وجود وتمام هذه القدرات والتجهيزات بالعمل الدعوي المخطط له فوراً ودون إبطاء ، وكان عليه أن يتوجه إلى الأطراف, وأطراف أي دولة هي الأكثر تفلتاً و شططاً.
{حتى إذا بلغ مغرب الشمس} يعني أقصى مكان في غرب الدولة ويمكن أن يكون شواطئ المغرب أو البرتغال وقد بلغ هذا المكان أي وصل إلى نهاية الرحلة الدعوية الاصلاحية الأولى باتجاه الغرب وبلغ منتهاها، وفي فعل “بلغ” دلالة الوصول للنهاية.
وهناك وجد مشهداً ووضعاً كان يتلمسه ويتقصاه ويتفقده وجاء من أجله وهو مشهد القوم الذين ضلوا وعبدوا الشمس التي كانت حينما تغيب على هيئة عين حمراء غاضبة يتوجه إليها هؤلاء مستقبلين خاضعين ساجدين.
وفي كل موضع غروب مكشوف ممتد تأخذ الشمس شكل العين الحمراء الغاضبة: في الوسط قرص الشمس المتسع كحدقة متسعة غاضبة محمرة ومن حوله هالة الشمس ووهجها المتضائل على شكل إطار العين ورسم العين, بخطوط واضحة حول قرص الشمس.
والعين الحمئة هي صفة لشكل الشمس في ساعة الغروب كالعين الحمراء الغاضبة ومن معاني الحمئة :الحمراء من الغضب و الساخنة .
وفي وصف شجاعة النبي قال علي :” كنا إذا حمي البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله ﷺ .
وعندما تسبق “في” العين الحمئة تعطي دلالة الوضعية والحالة: قال تعالى “إن الإنسان لفي خسر” أي أن الإنسان في حالة خسر.
“وجدها تغرب في عين حمئة” أي في هيئة العين الغاضبة الحمراء الساخنة. ولكن ما الدلالة على أن القوم الذين وجدهم ذو القرنين هناك كانوا ضالين بل ويعبدون الشمس:
– مرة أخرى إن في استخدام الفعل “وجد” أي تقصى وبحث فوجد، قال تعالى :{ قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا } (الكهف: 64-65) كانا يبغيان رجلاً محدداً ارتدا من أجله يبحثان عنه فوجداه.
– {وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوماً} هذا هو المشهد بالجملة، قوم يعبدون الشمس ويقيمون طقوس عبادتهم لها وقت مغيبها وهي تغرب في هيئة عين غاضبة حمراء حارة.
والتوقف لدراسة “عندها” يفضي إلى أن معناها هنا :داخل سيطرتها وهيمنتها وملكها ، أي أن القوم كانوا مذعنين للشمس وتحت هيمنتها وهي تملكهم وفق عقيدة فاسدة انتشرت بينهم وشاعت وهيمنت.
وفي معنى العندية “عند” نفصِّل: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا }(الإسراء: 23) …وعندك هنا أي تحت هيمنتك وفي بيتك وملكك ووصايتك وأنت تتولى أمرهما.
{مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } أي ما تملكون وتسيطرون عليه.
وفي أغلب ما ورد من مواضع فيها كلمة “عند” في القرآن هناك معنى التفرد في الملكية ومعنى التفرد في الميزان والقياس والتأثير والهيمنة.
ومن كل ذلك يكون معنى عندها في عبارة “ووجد عندها قوماً” أي الشمس استحوذت عليهم وأصبحوا تحت تأثيرها وهيمنتها وأمسوا يعبدونها وفق عقيدة فاسدة انتشرت فيهم وسيطرت.
ومن يبحث طويلاً وعميقاً في التاريخ يجد أن أكثر شيء عُبد من دون الله سبحانه هي الشمس، أما عبادة الأصنام فكانت وفق عقيدة فاسدة أخرى لا تنكر وجود الله إنما تجعل إليه وسطاء وأولياء وأوثاناً للوصول والتقرب إليه …”وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ”
أما عبادة الشمس وتقديسها نفسها وما يمت اليها بصلة فهي أقدم العبادات الضالة في الجنس البشري.
ومن الذين عبدوا الشمس بشكل أو بآخر السومريون والأكديون والكلدانيون والساميون والآشوريون والفراعنة والهنود والفرس, والرومان الذين أدخلوا تقديس الشمس للمسيحية حين اعتنقوها.
وذكر القرآن عبادة قوم سبأ للشمس :{وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُم}.
ووجه الجليل لكل الذين فُتنوا بالشمس الأمر {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
وأكبر شيء لفت نظر إبراهيم وهو يتدبر ويتفكر ويتدرج للوصول إلى خالقه كانت الشمس: { فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام :78 ).
وفي وقتنا الحاضر مازال عبدة الشمس يمارسون عبادتهم وطقوسهم بل وثقت الصور نفس المشهد الذي وجده ذو القرنين: (قوم عند الشمس يعبدونها ويمارسون طقوسهم وهي تغرب في هيئة عين حمئة حمراء).
وتُعقد تجمعات لتحية الشمس في المدارس ”عبادة الشمس” بشكل مستمر منذ عام 2007 في كثير من أنحاء الدولة الهندية.
وبعدها فوض الله ذا القرنين لاختيار طريقة التعامل مع الذين ضلوا وأضلوا وأفسدوا { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} (الكهف: 86).
فاختار ذو القرنين العقاب للذين ظلموا فقط والظلم شامل لأنفسهم وعلى قومهم في الإصرار على العقيدة الفاسدة وفي الاستمرار في الإفساد والظلم في سائر نواحي الحياة… {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا}.
واختار ذو القرنين أصل الدعوة ونهجها مع البسطاء الذين خُدعوا وأرغموا وقلدوا ثم تابوا… {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا}.
وبعد أن جعل ذو القرنين الأمور في استقرار واستقامة في الأطراف الغربية لمملكته أتبع سبباً آخر, أي توجه إلى طريق الشرق بقصدٍ وترتيبٍ وتخطيطٍ آخر جديد, واستخدام السياق القرآني ل “ثم” التي تدل على التراخي ينبئ أن ذا القرنين أكمل ترتيب جهة الغرب بما يستوجب من وقت لازم قبل أن يُتبع ذلك بالتوجه إلى الشرق {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا} .
” حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا”…حتى إذا “بلغ” أي وصل لنهاية مبتغاه ووصل إلى نهاية مملكته من جهة الشرق, ولم يقل السياق مشرق الشمس لأن منتهى جهة المشرق المعتمدة هي نهاية اليابسة من جهة الشرق ونهاية اليابسة بعيدة للغاية ولا تمتد إليها مملكة ذي القرنين وهي على الأغلب شواطئ الاتحاد الروسي في أقصى الشرق على المحيط الهادي, فورد في السياق القرآني “مطلع الشمس” ويعني أقصى نقطة في المملكة تطلع عليها الشمس “شرقا”.
وكان ذو القرنين يبحث ايضاً عن ضالته في الذين انحرفوا وأفسدوا في تلك النواحي حيث الشمس ساطعة مؤذية لا يصدها عمن هم تحتها غطاء نباتي ولا سُحب كثيفة ,ومن هم تحتها عبدوها وفق عقيدة فاسدة تدعو لعبادة من يؤذي دفعاً لإيذائه “كعبدة الشيطان”.
وأغلب الظن أن القوم هناك كانوا في صحراء ممتدة أو في مساحات جرداء من هضبة التبت “سقف العالم”.
وفعل ذو القرنين هناك مع القوم ما فعله في مغرب الشمس تماما وما دلَّنا على ذلك إلا كلمة واحدة وردت وهي : “كذلك”… أي كذلك كانوا تحت تأثير الشمس ساجدين لها وكذلك فعل بهم ذو القرنين تحت علم الله وإذنه… {كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا}.