لا يزال الإسلام قادرًا على أن يتحفنا بالبراهين والشواهد الدالة على نفاذه الدائم، وقدرته على مخاطبة الإنسان، مُطْلَق الإنسان، على اختلاف الزمان والمكان؛ إذ إن ذلك من مقتضيات كونه الرسالةَ الخاتمة، والكلمةَ الأخيرة لهداية البشرية..

ومن هذه البراهين والشواهد هؤلاء الرجال الذين صنعهم الإسلام على عينه، قديمًا وحديثًا، ورباهم على منهجه في الفكر والسلوك؛ حتى لكأنهم من غير بني البشر!

إن الإسلام لا تقف عواملُ تَميُّزِه وتمايزه عند منهجه ومبادئه وقيمه فحسب، بل يمتد هذا التميز والتمايز ليشمل أيضًا رجال الإسلام.. بحيث لم يكن الإسلام مجرد منهج نظري يبعث على الإعجاب، ويخطف الأبصار والبصائر، وإنما تحوَّل منهج الإسلام- من منهج في الذهن والفكر والتصور- إلى واقع حيّ مُتجسِّد في رجال يحملونه على أكتافهم، ويسعون به نورًا وعدلاً ورحمةً بين الناس، ويعكسون بخطواتهم الراشدةِ صدقَ هذه المبادئ والقيم.

وإن مراجعة تاريخ الإسلام، قديمًا وحديثًا، لَترينا عددًا هائلاً من رجال الإسلام هؤلاء؛ الذي كانوا خير تمثيل للإسلام الذي ينتسبون إليه؛ وذلك في شتى مجالات الحياة: فكريًّا، وروحيًّا، وعلميًّا، واجتماعيًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، وعسكريًّا؛ وعلى مستويات الفرد والمجتمع، إضافة إلى العلاقة مع الآخر.

ولهذا، يلفت د. محمد رجب البيومي أنظارنا إلى طريقة سديدة في التأريخ للأديان والفلسفات؛ بحيث يمكن أن نتعرف إلى التاريخ في جانبيه: النظري القيمي، والعملي النموذجي. وبهذا نستطيع أن نتبين الفرق بين نِحلة وأخرى، ومذهب وآخر.

يقول د. البيومي، رحمه الله: “إذا كان هناك من يؤرخون للنهضات في ظلال مُثُلها المرموقة، واتجاهاتها الهادفة؛ فإن تأريخ هذه النهضات من حديث أبطالها المجاهدين يقدم الوجه الثاني من هذا التاريخ، وهو لون يجد الترحيب من قرائه؛ إذ يتخلله من المتعة العقلية والنفسية ما يساعد على استيعابه وتمثيله”([1]).

 

الندوي ومقاومة المؤثرات والتقلبات

أما علامة الهند، الشيخ أبو الحسن الندوي، رحمه الله، فيُبرز مكانة “رجال الإسلام” من خلال خلاصة مهمة انتهى إليها؛ وهي أن الإسلام قد استطاع مسايرة تطور الحياة وتوجيهه من خلال عاملين أساسيين، هما: الحيوية الكامنة في وضع الإسلام نفسه.. وما منحه الله لهذه الأمة من رجال أقوياء في كل عصر.

الشيخ أبو الحسن الندوي

 

يقول الشيخ الندوي: “من الحقائق الأولية أن الحياة متحركة ومتطورة، دائمة الشباب، مستمرة النمو، تنتقل من طور إلى طور، ومن لون إلى لون، لا تعرف الوقوف ولا الركود، ولا تصاب بالهرم والتعطل؛ فلا يسايرها في رحلتها الطويلة المتواصلة إلا دين حافل بالحركة والنشاط، لا يتخلَّف عن ركب الحياة، ولا يعجز عن مسايرته وزمالته، ولا تقصُر عنه خطواته، ولا تنفَد حيويته ونشاطه”.

ويضيف: “وذلك شأن الإسلام؛ فإنه- وإن كان مؤسَّسا على عقائد ثابتة، وحقائق خالدة- زاخر بالحياة، حافل بالنشاط، له من الحيوية معين لا ينضب، ومادة لا تنفد، صالح لكل زمان ومكان؛ وعنده لكل طور جديد من أطوار الحياة، ولكل جديد من أجيال البشرية، ولكل عهد مستأنَف من عهود التاريخ، ولكل مجتمع عصري من مجتمعات البشر: مددٌ لا يقصُر عن الحاجة، ولا يتأخر عن الأوان”([2]).

وحين يتساءل الشيخ الندوي: كيف استطاعت الأمة أن تقاوم تغيرات الزمان والمكان؟ فإنه يرى جواب ذلك في قوتين استطاعت بهما الأمة أن “تقاوم المؤثرات الخارجية العنيفة والتقلبات التي لا تكاد تنتهي” على حد قوله.

هاتان القوتان برأيه هما:

– الحيوية الكامنة في وضع الإسلام نفسه، وصلاحيته للحياة والإرشاد في كل بيئة وفي كل محيط، وفي كل عهد من عهود التاريخ.

– أن الله قد تكفل بأن يمنح هذه الأمة التي قضى ببقائها وخلودها رجالاً أحياء أقوياء في كل عصر؛ ينقلون هذه التعاليم إلى الحياة، ويُعيدون إلى هذه الأمة الشباب والنشاط. إن هذا الدين نفسه هو من أقوى العوامل في وجود هؤلاء الأشخاص في كل عصر ومصر؛ لأنه يُثير في أتباعه ودارسيه كوامن القوة… ويُحرِّم عليهم الاستنامة إلى الأوضاع الفاسدة، والرضا بالحياة الدنيا، وبيعَ الضمائر”([3]).

القرافي ودلائل النبوة

ومن قبل، لفت الإمام القرافي إلى تميُّزِ “رجال الإسلام”، مبيِّنًا أن هذا التميز يدل دلالة واضحة على تميز الإسلام ذاته؛ بل ذهب إلى أن تميز هؤلاء الرجال يُعد أحدَ الوجوه التي يمكن من خلالها إثباتُ نبوةِ النبي ، والتفريقُ بين (المعجزات في النبوات وبين السحر وغيره مما يُتَوَهَّمُ أنه من خوارق العادات)، كما هو عنوان أحد مسائل كتابه: (الفروق)!

يقول رحمه الله: “والفرق بينهما [أي بين المعجزات وغيرها] من ثلاثة أوجه: فَرْقٌ في نفس الأمر باعتبار الباطن، وفرقان باعتبار الظاهر. أما الفرق الواقع في نفس الأمر فهو أن السحر والطلمسات وهذه الأمور ليس فيها شيء خارق للعادة، بل هي عادة جرت من الله بترتيب مُسَبَّبَاتِهَا على أسبابها، غير أن تلك الأسباب لم تحصل لكثير من الناس بل للقليل منهم، كالعقاقير التي تُعْمَلُ منها الكيمياء… هذه كلها ونحوها في العالم أمور غريبة قليلة الوقوع، وإذا وُجدت أسبابها وجدت على العادة فيها. وكذلك إذا وجدت أسباب السحر الذي أجرى الله به العادة، حَصَلَ… غير أن الذي يعرف تلك الأسباب قليل من الناس؛ أما المعجزات فليس لها سبب في العادة أصلاً؛ فلا يجعل الله تعالى في العالم عقارًا يَفْلِقُ البحر، أو يُسَيِّرُ الجبال في الْهَوَى ونحو ذلك. فنحن نريد بالمعجزة ما خلق الله تعالى في العالم عند تَحَدِّي الأنبياء على هذا الوجه؛ وهنا فرق عظيم”([4]).

ثم يقول القرافي عن الفَرقَيْن الآخرين اللذين نميِّز بهما بين معجزات الأنبياء وغيرها من أعمال السحر وما يُتوهم من خوارق العادات: “غير أن الجاهل بالأمرين يقول: وما يدريني أن هذا لا سبب له من جهة العادة؟ فيقال له: الفرقان الأخيران يُذهبان عنك هذا اللبس:

الفرق الأول: أن السحر وما يجري مجراه يختص بمن عُمِلَ له، حتى إن أهل هذه الحرف إذا استدعاهم الملوك والأكابر ليبينوا لهم هذه الأمور على سبيل التفرج، يطلبون منهم أن تُكْتَبَ أسماء كل من يحضر ذلك المجلس، فيصنعون صنعهم لمن يُسَمَّى لهم، فإن حضر غيرهم لا يرى شيئًا مما رآه الذين سُمُّوا أولاً. قال العلماء: وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ}: يَنْظُر إليها على الإطلاق؛ ففارقتْ بذلك السحر وَالسِّيمِيَاءَ، وهذا فرق عظيم يظهر للعالم والجاهل.

الفرق الثاني: الظاهر من قرائن الأحوال المفيدة للعلم القطعي الضروري الْمُحْتَفَّةِ بالأنبياء عليهم السلام المفقودَةِ في حق غيرهم؛ فنجد النبي عليه الصلاة والسلام أفضل الناس نشأة ومولدًا، وَمَزِيَّةً وخَلقًا وخُلقًا وصدقًا وأدبًا، وأمانة وزهادة، وإشفاقًا ورفقًا وبعدًا عن الدناءات والكذب والتمويه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}. ثم أصحاب رسول الله كانوا بحارًا في العلوم على اختلاف أنواعها؛ من الشرعيات والعقليات والحسابيات والسياسات والعلوم الباطنة والظاهرة… مع أنهم لم يدرسوا ورقة، ولا قرؤوا كتابًا، ولا تفرغوا من الجهاد وقتل الأعداء. ومع ذلك فإنهم كانوا على هذه الحالة ببركته ؛ حتى قال بعض الأصوليين: لو لم يكن لرسول الله معجزة إلا أصحابه، لَكَفَوْهُ في إثبات نُبوته… وأما الساحر فعلى العكس من ذلك كله؛ لا تجده في موضع إلا ممقوتًا حقيرًا بين الناس؛ وأصحابَهُ وأتباعَه وأتباعَ كلِّ مبطل عديمين للطلاوة، لا بهجة عليهم، والنفوس تنفر منهم، ولا فيهم من نوافل الخير والسعادة أثر. فهذه فروق ثلاثة بين البابين، وهي في غاية الظهور لا يبقى معها- ولله الحمد- لبس ولا شك لجاهل، ولا عالم”([5]).

ويا لها من كلمة: “لو لم يكن لرسول الله معجزة إلا أصحابه، لكفوه في إثبات نبوته”!!

إذن، فرجال الإسلام عبر تاريخه الطويل هم لون جديد من إعجازه، يضاف إلى إعجازاته في الهداية، والتشريع، والحقائق التاريخية، والعلمية، وغير ذلك.. ومن ثم، ينبغي أن ندرس حياة هؤلاء الرجال الأفذاذ على هذا النحو، وأن نُبرِز جهدهم وجهادهم للشباب؛ بحيث نستخلص من حياتهم النماذج العملية؛ التي كانت تطبيقًا أمينًا وانعكاسًا مشرِّفًا للنماذج النظرية؛ التي تمثلت في المنهج والمبادئ والقيم.


([1]) “النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين”، د. البيومي، ج1، ص: 5، 6، دار القلم، دمشق، ط1، 1995م.

([2]) رجال الفكر والدعوة في الإسلام، الندوي، ج1، ص: 39، دار ابن كثير، دمشق ط3، 2007م.

([3]) المصدر نفسه، ج1، ص: 41، 42.

([4]) “أنوار البروق في أنواع الفروق”، القرافي، نقلاً عن “المكتبة الإسلامية” على موقع “إسلام ويب”، باختصار يسير.

([5]) المصدر نفسه.