جاء في الحديث عن أنس بن مالك أنه قال: رقي رسول الله ﷺ المنبر، فارتقى درجة، ثم قال: آمين. ثم ارتقى درجة أخرى، ثم قال: آمين. ثم ارتقى درجة أخرى، ثم قال: آمين. ثم استوى فجلس، فقال أصحابه: على ما أمنت يا رسول الله؟ قال: أتاني جبريل، فقال لي: رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك. قال: فقلت آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك أبويه أو أحدهما، فلم يدخل الجنة. فقلت: آمين. قال: رغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له. فقلت: آمين[1].
وهذا الحديث اشتهرت روايته عن مجموعة من الصحابة، فقد رواه كل من أبي هريرة وكعب بن عجرة وعمار بن ياسر وغيرهم، وفيه ترغيب شديد من النبي ﷺ على اغتنام فرصة رمضان بالصيام والقيام وطلب الغفران من العزيز المنان الذي يجزل في العطاء ويكافئ بالإحسان، بل جاء في الحديث الصحيح، أن رمضان موسم دخول العباد الموفقين إلى الجنة، دار الرضوان، والإعتاق من النيران، فكان حقيقا أن يتحسر من فوت هذه الفرصة الكبيرة من كرم المولى سبحانه، يقول النبي ﷺ: )إذا جاء رمضان، فتحت أبواب السماء، وغلقت أبواب جهنم)[1].
وإن فتح أبواب الجنة ما فتح الله على العباد فيه من الأعمال المستوجب بها الجنة من الصلاة والصيام وتلاوة القرآن، وأن الطريق إلى الجنة في رمضان أسهل والأعمال فيه أسرع إلى القبول، وكذلك أبواب النار تغلق بما قطع عنهم من المعاصي، وترك الأعمال المستوجب بها النار، ولقلة ما يؤاخذ الله العباد بأعمالهم السيئة، يستنفذ منها ببركة الشهر أقواما ويهب المسئ للمحسن، ويتجاوز عن السيئات فهذا معنى الغلق[2].
وجاء نداء الله لطالب الخير والجنة باغتنام هذا الموسم، قال النبي ﷺ: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر) نداء موجها لطالب الثوابِ أقبل! هذا أوانك، فإنك تعطي ثواباً كثيراً بعمل قليل، وذلك لشرف الشهر، ويا من يشرع ويسعى في المعاصي تب وارجع إلي الله تعالي، هذا أوان قبول التوبة، ولله عتقاء من النار، لعلك تكون من زمرتهم»[3].
أما الحديث النبوي: (رغم أنف رجل أدرك رمضان فلم يغفر له) فقد اشتمل على مواعظ نافعة فيها تنبيه لكل مقصر في هذا الموسم والاستفادة منه:
1 – المراد بقوله (رغم أنف رجل) قال القرطبي: يقال رغم بكسر الغين وفتحها لغتان رغما بفتح الراء وكسرها وضمها ومعناه لصق بالرغام بفتح الراء وهو التراب، وأرغم الله أنفه أي ألصقه، وهذا من النبي ﷺ دعاء مؤكد على من قصر في هذه الأمور المذكورة.
قال القرطبي: ويحتمل وجهين أحدهما أن يكون صرعه الله لأنفه فأهلكه وهذا إنما يكون في حق من لم يقم بما يجب عليه من برِّ الوالدين.
وثانيهما أن يكون أذله الله لأن من ألصق أنفه الذي هو أشرف أعضاء الوجه بالتراب الذي هو موطئ الأقدام وأخس الأشياء فقد انتهى من الذل إلى الغاية القصوى وهذا يصلح أن يدعى به على من فرَّط في متأكدات المندوبات ويصلح لمن فرَّط في الواجبات وهو الظاهر.
وهذا الدعاء بالهلاك أتى على أصناف من الناس ممن يغلب عليهم التقصير والتفريط في جنب الله سواء في ترك المسنونات المؤكدة أو الواجبات، ومنها: التفريط في حق الوالدين، والتفريط في الصلاة على النبي ﷺ، والتفريط في رمضان والاستفادة من المغفرة والرحمة التي تتنزل في شهر رمضان.
2- هذا الدعاء بالهلاك يقع على صنوف من الرجال خصصهم الحديث بالذكر، ومنهم رجل أدرك رمضان فلم يغفر له، قال ابن عثيمين: وذلك بأن يهمل صيام رمضان وقيام رمضان، فإن من صام رمضان إيماناً واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفرله ما تقدم من ذنبه، فإذا أهمل وأضاع فإنه لن يحصل على هذا الثواب العظيم ويكون قد رغم أنفه.
3 – ضرورة استحضار أنواع الطاعات وتقييدها وتوطين العزيمة على أدائها في رمضان فهو من أهم ما يُستعدُّ له في هذا الشهر، وعلى هذا الأصل تحمل كل النصوص الواردة في فضل رمضان والاجتهاد فيه، فمعظمها صريح أو ظاهر في أنه قيل قبل رمضان أو في أوله.
4 – الاستمرار على أداء الطاعات والرغبات في كامل شهر رمضان، فالشهر أيام معدودات، والابتعاد عن الانقطاع والتأزم بسبب تعود العمل، فيسأم الإنسان وهو في أثناء السير، بل قد يقول البعض – من وثبة الغفلة-: إن قصرت اليوم ولم أحضر صلاة التراويح في هذه الليلة، فإن ليالي رمضان طويلة فإنني سوف أستدرك ما فاتني، وهذا الحديث النفسي عند البعض، وإن كان صحيحا، لكن واقع الأمر أن تجربة الانقطاع ساعة يبقى أثرها في القلب على أمد، فإنه قد يمتد فيتحول إلى ساعات أو أيام، ويستمرئ الإنسان التفريط والتقصير، فيفوته فضل رمضان ونيل عطاء الرحمن بالفضل والغفران.
يقول ابن مسعود: وددت لو أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأن لا يعرف لي نسب، وقال: وددت أني عبد الله بن روثة وأن الله غفر لي ذنباً واحد. فما ظنك بغفران الذنوب في رمضان!
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: إن أهل الجنة ليفرحون بدخول شهر رمضان من الحور والخزنة والولدان.
قال سريا السقطي: السنة شجرة، والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها وأنفاس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها.
وأحسن الإمام ابن الجوزي حين قال: إنما شرع الصوم ليقع التقلل، فأما من أوثق الرزمة فما له نية في البيع، إذا استوفيت العشاء تكدر الليل بالنوم، وإذا استوفيت السحور تخبط النهار بالكسل، وإنما شرع السحور ليتقوى المتقلل من العشاء ولينتبه الغافل، وما أرى رمضان إلا زادك شبعا وغفلة[4].
[1] الحديث أخرجه ابن حبان والبزار قال الشيخ شعيب الأرناؤوط: حديث صحيح لغيره. انظر: تحقيق الإحسان لابن بلبان.
[1] صحيح البخاري (1800)، مسلم (1079).
[2] شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/20).
[3] «شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن» (5/ 1576).
[4] «التبصرة لابن الجوزي» (2/ 78).