قام الأستاذ الدكتور – كعادته – من النوم مبكراً نشيطاً مفعماً بالحيوية متحمسا للإنجاز ، وجلس يتناول الفطور سريعاً وهو يكتب أهداف يومه وفعاليات ليلته ويرتب أوليات أعماله ، فوقته ضيق محسوب عليه ، و كم المسؤوليات وتزاحمها لا يسمحان له بالتلكؤ والتباطؤ .
وجه مشرق
استهل الدكتور يومه بتصفح البريد الالكتروني والرد على التساؤلات الواردة إليه ، فهو مستشار ومرجع مرموق في تخصصه يشهد له القاصي والداني ، و أجرى بعض الاتصالات الهاتفية الخاصة بالبرامج التي سينفذها والمقابلات التي ستجرى معه . و أسرع فضيلته إلى المركبة كي يدرك المحاضرة الجامعية في وقتها ، فلا غرو إنه دقيق في مواعيده – لم يتأخر عن محاضرة ألقاها طيلة ثلاثين سنة ماضية – .
أنهى المفكر العلامة محاضراته بهمة واتقاد ، وأجاب عن تساؤلات الطلبة بعلم عميق وفهم دقيق ، وخرج للتو إلى مكتبه في خفة وعجلة ، شارعا في قراءة رسالة جامعية لمناقشتها بعد سويعة ، فهو لا يعرف التعب أو الراحة !
أكمل الحبر الفهامة مناقشة الرسالة بكل ثقة ونجاح، وأبدى معرفة منقطعة النظير و ذكاء متقدا ودراية بالتخصص لا تضاهى ، وبادر إلى المركبة ليدرك تدشين مركز دراسات سيكون الأول من نوعه في البلاد ، وسيلقي كلمة بمناسبة الافتتاح ، فهو المستشار والمرجع لهذا المركز .
بعد هذا الحفل الثقافي ، أخذ الدكتور في السير إلى مقر القناة الفضائية – مصدر شعبيته ومقر شهرته – ليطرح فكره وينشر علمه إلى الملايين من العطشى للمعرفة ، وكالعادة يُختم له بالثناء والإعجاب والدعاء، فمثله يستحق ذلك.
إن التخطيط السليم والإنجاز الحقيقي أن لا يغفل الأريب من هم أولى الناس به وأقربهم إليه في خططه وسلم أولوياته فيخصص لهم جل وقته لا فضوله و صلب جهده لا دِقه
بقي من مشاريعه الليلة حضور الأمسية الشعرية التي يقصدها المئات من محبي العربية، فصاحبنا شاعر مبدع إضافة لكونه خطيبا مصقعا.
مع نهاية اليوم المليء بالإنجازات والحافل بالعطاء ، عاد فضيلته إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل منشرح القلب والصدر ، سعيدا بما حققه راضيا عن أدائه ، وأوى إلى فراشه مخططا لأجندة الغد .
وجه مظلم
ولكن .. هل تعلمون أن الأستاذ الدكتور لا يستطيع النوم إلا بمهدئات ومنومات ، بسبب اكتئاب أصيب به منذ عشرة سنين يوم أن توفيت زوجته ؟! يومها تزوج من أخرى لم تستطع العيش معه لعدم تفرغه فطلقها ، وانحل نظم أسرته و لم يستطع احتواء أبنائه وإعادة الأمور لنصابها مع أنه يحل عويصات المشكلات لجمهور الناس .
فنجله مسجون بجنحة من سنين ، وابنته مطلقة لخلاف طويل مع زوجها ، أما ابنه الأصغر فهو في مصحة نفسية منذ أشهر بسبب إدمان المخدرات !! بل حتى أمه المقعدة في المشفى لا يكاد يزورها إلا مرة كل شهر لكثرة انشغالاته واتساع علاقاته !
وقفة تأمل
أليس هذا حال الكثيرين من عقول الأمة وفحول العلم ودعاة الإصلاح ومشاهير الزمان ، اشتغلوا بالبعيد على حساب القريب ، وأقاموا سننا وضيعوا فروضا ، أو أقل ما يقال إنهم جدوا في واجبات وتركوا الأوجب منها ؟! حتى انطبق عليهم المثل الشعبي ( باب النجار مخلع ) !
ونسوا أو تناسوا قول الله ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6) ﴾ . الممتحنة ( 6 ).
وقول النبي الكريم عليه السلام : ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) . الترمذي.
إن التخطيط السليم والإنجاز الحقيقي أن لا يغفل الأريب من هم أولى الناس به وأقربهم إليه في خططه وسلم أولوياته ، فيخصص لهم جل وقته لا فضوله و صلب جهده لا دِقه . عليه أن يعلم أنهم جزء من مشروعه ، فيأخذ بأيديهم نحو المعالي وليتق الله في رعيته فهو مسؤول عنها .