فقدت الأمة الإسلامية والعالم الإسلامي مؤخرًا قامة علمية شامخة برحيل فضيلة الشيخ المحدث المسند عبد الوكيل الهاشمي، الذي وافته المنية في الخامس والعشرين من أغسطس من العام الجاري 2025.
كان الشيخ الهاشمي، رحمه الله، علمًا من أعلام الحديث النبوي الشريف، ومدرسًا وواعظًا في المسجد الحرام بمكة المكرمة، ولقب بـ “مسند مكة” لعنايته الفائقة بحديث رسول الله ﷺ، وخاصة صحيح البخاري، تدريسًا وتأليفًا. في هذه النبذة البسيطة سنحاول – قدر الإمكان- تسليط الضوء على جوانب الحياة المختلفة للشيخ عبد الوكيل الهاشمي، بدءًا من نشأته وتحصيله العلمي، مرورًا بشيوخه ومؤلفاته، وصولًا إلى إرثه العلمي والدعوي الذي تركه للأجيال القادمة.
النشأة والتحصيل العلمي
هو الشيخ عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي ولد عام 1357هـ الموافق لنحو 1938م، في مدينة أحمد بور الشرقية بمقاطعة بهاولبور في الهند، وهي الآن جزء من باكستان. نشأ في أسرة علمية عريقة وبيت دين وصلاح، حيث كان والده، العلامة المحدث عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي، من كبار علماء الحديث في الهند ثم في مكة المكرمة. بدأ الشيخ عبد الوكيل تعليمه على يد جده الشيخ الصالح المعمر عبد الواحد بن محمد الهاشمي، حيث قرأ عليه القرآن الكريم كاملًا، ومبادئ العلوم باللغة الفارسية، وتعلم الخط والكتابة باللغة العربية.
بعد ذلك، التحق بإحدى المدارس الحكومية، ثم انتقل إلى مدرسة دار الحديث المحمدية ببلدة جلال بور، حيث تتلمذ على يد الشيخ سلطان محمود، الذي كان من كبار تلامذة والده. أمضى فيها أربع سنوات، ثم لحقت أسرته بوالده الذي كان قد استقر في مكة المكرمة.
في مكة المكرمة، واصل الشيخ عبد الوكيل الهاشمي مسيرته التعليمية، فالتحق بمدرسة لتحفيظ القرآن الكريم في زقاق الحجر، ثم تابع تحصيله في مدرسة دار الحديث في دار الأرقم بأصل الصفا.
كان ملازمًا لوالده في المسجد الحرام، حيث أصبح قارئًا لدروسه، وقرأ عليه عشرات المصنفات في الحديث والفقه والتفسير وغيرها من علوم الشريعة، وظل كذلك حتى وفاة والده عام 1392هـ الموافق 1972م. كان والده يحثه وإخوته على حفظ الأحاديث النبوية، وكان قد جزأ صحيح البخاري إلى ثلاثين جزءًا، يقرأ كل يوم جزءًا ليختم الصحيح كل شهر.
نال الشيخ عبد الوكيل الهاشمي شهادة العالمية في العلوم العربية والإسلامية عام 1405هـ الموافق 1985م من لاهور، وشهادة الفضيلة من جامعة رياض العلوم بدِهلي. وقد نصت شهادته الأخيرة على إجازته للرواية والتدريس بالشروط المعتبرة عند أئمة الحديث. كان الشيخ متقنًا لعدد من اللغات قراءة وكتابة وحديثًا، منها الفارسية، والأردية، والسريكية، والبنجابية.
خير خلف لخير سلف
تُظهر نشأة الشيخ عبد الوكيل الهاشمي في بيئة علمية عريقة مدى تأثيرها في صقل شخصيته العلمية منذ نعومة أظفاره. فجده الشيخ عبد الواحد، الذي بدأ تعليمه على يديه، لم يكن مجرد معلم فحسب، بل كان مربيًا صالحًا غرس فيه حب العلم والقرآن. هذا التأسيس المبكر في حفظ القرآن الكريم ومبادئ العلوم بالفارسية والعربية، مكنه من بناء قاعدة معرفية صلبة.
انتقاله إلى مدرسة دار الحديث المحمدية في جلال بور، ثم إلى مكة المكرمة، لم يكن مجرد تغيير في الأماكن، بل كان انتقالًا نوعيًا في مسيرته العلمية. ففي مكة، المدينة المقدسة ومهد العلم الشرعي، وجد الشيخ عبد الوكيل الهاشمي البيئة الخصبة التي مكنته من التتلمذ على يد والده، العلامة عبد الحق الهاشمي، الذي كان من كبار محدثي الحرمين. هذه الملازمة لوالده، وقراءته عليه عشرات المصنفات في مختلف العلوم الشرعية، جعلت منه وريثًا حقيقيًا لعلم والده ومنهجه.

كانت طريقة والده في تدريس صحيح البخاري، بتقسيمه إلى ثلاثين جزءًا وقراءة جزء كل يوم، نموذجًا فريدًا في الحرص على إتقان السنة النبوية. هذه الطريقة، بالإضافة إلى تشجيع والده على حفظ الأحاديث النبوية، كان لها أثر بالغ في تكوين شخصية الشيخ عبد الوكيل الهاشمي كمحدث بارع.
إن حصوله على شهادتي العالمية والفضيلة من جامعات عريقة في لاهور ودِهلي، وتصريح أساتذته بإجازته للرواية والتدريس، يؤكد على مكانته العلمية الرفيعة واعتراف الأوساط العلمية به. كما أن إتقانه لعدة لغات، مثل الفارسية والأردية والسريكية والبنجابية، لم يكن مجرد مهارة لغوية، بل كان وسيلة لتعميق فهمه للعلوم الشرعية التي كتبت بهذه اللغات، وفتح له آفاقًا أوسع في التواصل مع طلاب العلم من مختلف الخلفيات الثقافية.
شيوخه وأساتذته
تلقى الشيخ عبد الوكيل الهاشمي العلم عن عدد كبير من الشيوخ والعلماء الأجلاء، سواء بالإجازة والرواية أو بالقراءة عليهم. ومن أبرز شيوخه الذين حصل منهم على إجازة الرواية:
- والده الشيخ عبد الحق بن عبد الواحد الهاشمي (ت 1392هـ): كان له الأثر الأكبر في تكوينه العلمي، حيث لازمه وقرأ عليه الكثير من المصنفات.
- الشيخ عبد السلام بن ياد البَسْتَوي ثم الدِّهلوي (ت 1394هـ): مدير مدرسة رياض العلوم في دِهْلي.
- الشيخ محمد عبد الله بن عبد الكريم البَدِهي مالَوِي (ت 1407هـ): شيخ الحديث والتفسير بالجامعة السلفية في فيصل آباد.
- الشيخ عُبَيد الله بن عبد السلام الرحماني المُبارَكْفُوري (ت 1414هـ): تلميذ عبد الرحمن المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي.
- الشيخ سلطان محمود بن حسن الجَلالْبُورِي (ت 1416هـ): أكبر تلامذة والده.
- الشيخ شمس الحق ابن الشيخ عبد الحق: تلميذ السيد نذير حسين الدهلوي.
- الشيخ الحافظ محمد عبد الله بدهي مالوي: شيخ الحديث.
أما الشيوخ الذين قرأ عليهم الشيخ عبد الوكيل الهاشمي، فمنهم:
- الشيخ تقي الدين الهلالي: قرأ عليه حديثًا واحدًا من سنن الترمذي.
- الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة: قرأ عليه مجلدين أو ثلاثة من كتاب البداية والنهاية.
- الشيخ أحمد شاكر: قرأ عليه حديثًا واحدًا من سنن الترمذي.
- الشيخ ناصر الدين الألباني: قرأ عليه عدة أحاديث في المدينة المنورة، وقد ذكر الشيخ عبد الوكيل الهاشمي أنه تجادل مع الشيخ الألباني في مسألة تحديد عدد الذكر.
أعماله ومؤلفاته
كان الشيخ عبد الوكيل الهاشمي، رحمه الله، عالمًا غزير الإنتاج، وله العديد من المؤلفات والتحقيقات التي أثرى بها المكتبة الإسلامية، وخاصة في مجال الحديث النبوي الشريف. تميزت مؤلفاته بعنايتها الفائقة بصحيح البخاري، حيث كان له اهتمام خاص بضبط مواضع أسماء الرجال، وعد أسماء الكتب والأبواب والرواة والمعلقات والمتابعات فيه. من أبرز مؤلفاته:
المختصة بصحيح البخاري:
1.عناية الباري في ضبط مواضع أسماء الرجال في صحيح البخاري: يهدف هذا الكتاب إلى تسهيل مهمة الباحثين في تحديد مواضع أسماء الرواة في صحيح البخاري، مما يسهم في دقة البحث والتحقيق.
2.مفتاح القاري في عد أسماء الكتب والأبواب، والرواة، والمعلقات، والمتابعات من صحيح البخاري: يقدم هذا الكتاب إحصاءات دقيقة وشاملة لمكونات صحيح البخاري، مما يجعله مرجعًا قيمًا للدارسين.
3.عناية الوهاب لمن أخرج لهم البخاري أو استشهد به أو له ذكر من الأصحاب: يتناول هذا الكتاب الرواة الذين أخرج لهم الإمام البخاري في صحيحه، أو استشهد بهم، أو ورد ذكرهم من الصحابة.
4.إنعام الباري في معجم أحاديث شيوخ البخاري: معجم شامل لأحاديث شيوخ الإمام البخاري، يسهل الوصول إلى مروياتهم.
5.البحر الزاخر فيما روى الإمام البخاري في جامعه من شيخه بواسطة شيخه الآخر: يتناول الأحاديث التي رواها الإمام البخاري عن شيخين في حديث واحد.
6.فتح الواحد فيما روى الإمام البخاري في جامعه عن شيخين في حديث واحد: يوضح هذا الكتاب الأحاديث التي رواها البخاري عن شيخين في نفس الحديث.
سائر مؤلفاته:
1.مسند القزويني: هذب فيه سنن ابن ماجة ورتبه على ترتيب المسند.
2.الحطة في معجم أحاديث الشيوخ الأئمة الستة: معجم لأحاديث شيوخ الأئمة الستة (البخاري، مسلم، أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجة).
3.التعداد فيمن خضب لحيته من الصحابة وأئمة الحديث بالحناء والكتم والصفرة والسواد: دراسة تفصيلية عن خضاب اللحية.
4.أربعين أثرًا للسعادة من عمل بهن خرج من ذنوبه كيوم الولادة: كتاب في الأخلاق والرقائق.
5.البطشة الكبرى في غزوة بدر الكبرى: دراسة عن غزوة بدر.
6.تحقيق الأحاديث المنسوبة إلى الإمام الذهلي في البخاري وأسئلة والأجوبة: تحقيق للأحاديث المنسوبة إلى الإمام الذهلي.
7.دعاء المضطرين من البشر ومناجاتهم في وقت السحر: كتاب في الأدعية والمناجاة.
8.يا أهل الفرش لذوا بأسماء ذي العرش: كتاب في أسماء الله الحسنى.
9.القول الصحيح فيما فات من ابن عدي. وابن عساكر. وابن مندة. والصاغاني وما زادوا في كتبهم من أسماء المشايخ الإمام البخاري في جامعه الصحيح: استكمال لما فات من أسماء المشايخ في صحيح البخاري.
10.بدائع المنن في أسامي شيوخ الشيخ وأصحاب السنن: كتاب يتناول أسماء شيوخ الشيخ عبد الوكيل الهاشمي وأصحاب السنن.
11.مختصر عناية الباري: مختصر لكتابه عناية الباري.
12.أقوال المحدثين وجمهور الفقهاء على أن يغسل الزوج زوجته بعد موتها: دراسة فقهية حديثية.
إرثه العلمي والدعوي
ترك الشيخ عبد الوكيل الهاشمي، رحمه الله، إرثًا علميًا ودعويًا عظيمًا، تمثل في مؤلفاته القيمة، وتلاميذه الذين نهلوا من علمه، ومجالسه العلمية التي كانت عامرة بطلاب العلم في المسجد الحرام. كان يُعرف بـ “مسند مكة”، وهو لقب يدل على مكانته الرفيعة في علم الحديث، وخاصة في رواية الأحاديث بالأسانيد العالية. كان اهتمامه بصحيح البخاري تدريسًا وتأليفًا يعكس عمق معرفته بهذا الكتاب الجليل، وحرصه على خدمة السنة النبوية المطهرة.
كان الشيخ عبد الوكيل الهاشمي مثالًا للعالم العامل، الذي يجمع بين العلم والعمل، وبين التدريس والدعوة. كان له دور بارز في نشر العلم الشرعي، وتصحيح المفاهيم، وتوجيه الناس إلى الخير. وقد شهد له بذلك كل من عرفه من طلابه وزملائه وعامة المسلمين.
وفاته
توفي الشيخ عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي في الخامس والعشرين من أغسطس عام 2025م، عن عمر يناهز 86 أو 87 عامًا، ودفن في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة. وقد نعاه العديد من العلماء وطلاب العلم، سائلين الله له الرحمة والمغفرة، وأن يجزيه خير الجزاء على ما قدمه للإسلام والمسلمين.
إن رحيل الشيخ عبد الوكيل الهاشمي خسارة كبيرة للعالم الإسلامي، ولكن إرثه العلمي والدعوي سيظل خالدًا، يستفيد منه الأجيال القادمة. نسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، وأن يبارك في ذريته وتلاميذه، وأن يجعل ما قدمه في ميزان حسناته.