قالوا: إن أبا هريرة رضي الله عنه روى عن بعض أهل الكتاب. وزعموا أنه أخذ أخبارا عن كعب الأحبار ورفعها إلى النبي ﷺ. وللجواب عن هذه الشبهة أختصر العبارة فأقول:
أولًا: من هو كعب الأحبار؟
هو كعب بن ماتع أبو إسحاق، تابعيّ، كان من علماء اليهود، ثم أسلم في عهد عمر بن الخطاب، وروى عن عمر وعائشة وروى عنه ابن عباس وأبو هريرة وابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب… وكان عالما، قال فيه معاوية بن صالح: “… أن كان عنده لعلم كالثمار وإن كنّا فيه لمفرطين” خرج إلى الشام، فسكن حمص، وتوفي بها.. في خلافة عثمان رضي الله عنه([1]).
روى البخاري في صحيحه خبرا في حال كعب الأحبار، قال -البخاري-: (وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب، عن الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن: سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب)([2]).
وقوله: (لنبلو عليه الكذب): (يعني أن الكذب فيما يخبر به عن أهل الكتاب لا منه، فالأخبار التي يحكيها عن القوم يكون بعضها كذبا، فأما كعب الأحبار فمن كبار الأخيار)([3]).
وقال الذهبي عنه في تذكرة الحفّاظ: (من أوعية العلم، ومن كبار علماء أهل الكتاب)([4]). وقال في سير أعلام النبلاء: (… جالس أصحاب محمَد صلّى اللّه عليه وسلّم فكان يحدِّثهم عن الكتبِ الإسرائِيليّة، ويحفظ عجائب، ويأخذ السّنن عن الصحابة، وكان حسن الإسلام، متين الدّيانة، من نبلاء العُلَمَاءِ)([5]). وقال ابن حجر في التقريب: ثقة([6]).
والتهمة الموجّهة لأبي هريرة رضي الله عنه هي: كيف يروي عن رجل يحدّث بالإسرائيليات، وقد أدخل في رواياته أخبارًا عن أهل الكتاب، فلم تتميّز عند الصحابة فروى منها أبو هريرة وجعلها من حديث النبيّ ﷺ. قال أبو رية: (… قد رووا عن كعب الأحبار اليهودي الذي أظهر الإسلام خداعا وطوى قلبه على يهوديته، ويبدو أن أبا هريرة كان أكثر الصحابة انخداعا به وثقة فيه… ومما يدلك على أن هذا الحبر الداهية قد طوى أبا هريرة تحت جناحه حتى جعله يردد كلام هذا الكاهن بالنص، ويجعله حديثا مرفوعا إلى النبي)([7]).
فهذه دعوى تحتاج إلى دليل، ثم ما أقل أدب هذا “الكاتب” حين يقول إن صحابيا كمثل أبي هريرة يطويه كعب الأحبار تحت جناحه، فيملي عليه ما يحلو له من الإسرائيليات فيصدقه فيرويها عن النبي ﷺ، فهلا ذكر من ذلك شيئا صحيحا من كتب السنة؟ أم يتلقف بعض المرويات السقيمة دون نظر أو تمحيص؟ ورحم الله المعلمي في رده حيث قال: (إننا نتحدى أبا رية أن يجمع عشر حكايات مختلفة، يثبت أن أبا هريرة رواها عن كعب)([8]).
ثانياً: منهجية أبي هريرة الواضحة في الرواية
والذي يردّ هذا الزعم هو معرفة طريقة رواية أبـي هريرة رضي الله عنه عن كعب رحمه الله، فهناك رواية مفصّلة في كيفية الرواية في مجلس أبي هريرة رضي الله عنه، فعن بسر بن سعيد قال: (اتقوا الله وتحفظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة رضي الله عنه فيحدّث عن رسول الله، ويحدّثُنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله عن كعب ويجعل حديث كعب عن رسول الله)([9]).
فهذا الكلام شاهد على أنّ أبا هريرة رضي الله عنه كانت له منهجيّة في عقد مجالسه وفي طريقة الرواية، فلم يكن يخلط بين حديث رسول الله ﷺ وكلام كعب الأحبار، وإنّما كان يفصل بين حديث رسول الله ﷺ وكلام كعب، فالآفة من بعض السامعين الذين كانوا يُقلبون المتون بجعل كلام كعب من كلام رسول الله ﷺ، ومثل هذا كان يحصل مع الرواة حين إسماع الحديث، فربما التبس على بعض السامعين فيُدخل كلام الشيخ في حديث النبيّ ﷺ وهو ما يسمى بالإدراج، وهو مبحث من مباحث الحديث المعلول كما هو معلوم. وبهذا تبرأ ذمّة أبي هريرة رضي الله عنه رضي الله عنه.
قال المعلمي: (إنما يقع مثل هذا ممن يحضر المجلس من أعضاء الضبط من لا عناية له بالعلم، ومثل هؤلاء لا يوثقهم الأئمة، ولا يحتجون بأخبارهم، ولا بد أن ينتبهوا لغلطهم وعلى كل حال فلا ذنب لأبي هريرة في هذا، ولم يزل أهل العلم يذكر أحدهم في مجلسه شيئا من الحديث، ويذكر عنه مفصولا عنه ما هو من كلام بعض أهل العلم او غيرهم، وما هو من كلام نفسه، والحكاية نفسها تدل على أن أبا هريرة كان يبين، وإنما يقع الغلط لبعض الحاضرين)([10]).
أبو هريرة يصحح لكعب الأحبار ويرد عليه
ونضيف أمرًا آخر يشهد لما ذكرناه، وهو أن أبا هريرة رضي الله عنه قد يروي الحديث بحضرة كعب الأحبار، فيعترض عليه كعب، لكن أبا هريرة لم يكن يجاريه فيما يحكي، بل يتمسك برواية لفظ النبي ﷺ، ويرد رواية كعب، كما ثبت ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: قال رسول الله ﷺ: “خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة: فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها”. قال كعب: ذلك في كل سنة يوم، فقلت: بل في كل جمعة. قال: فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق النبي ﷺ… الحديث)([11]).
وهذه القصة تبين لنا منهج أبي هريرة رضي الله عنه في التعامل مع ما يرويه كعب، فلم يكن يترك ما عنده من الحديث عن النبي ﷺ لما عند كعب، فكيف يقال إنه روى أحاديث عنه ورفعها إلى النبي ﷺ؟ وهل وجد من هذا شيء ثبت بالدليل الصحيح؟ كلا..
ثالثاً: حكم الرواية عن بني إسرائيل وضوابطها
ثم ما يمنع أن يروي الصحابيّ عن كعب الأحبار؟ بل عن بني إسرائيل عموما، وقد عُلم أن النبيّ ﷺ أذن في ذلك، كما ثبت من قوله: “وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج”([12])، وقيّد ذلك بعدم تصديقهم أو تكذيبهم كما جاء في الحديث: “لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم…”([13]).
فكيف يجيز أبو هريرة رضي الله عنه لنفسه أن يروي شيئا من التوراة عن كعب ثم ينسبه إلى النبي ﷺ([14])؟ وهو أحد الرواة لحديث النبي ﷺ: “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار”([15])، أفيسمح لنفسه بعد ذلك أن ينسب إلى النبي ﷺ ما لم يقله؟
ثم إنه قد ثبت تصديق النبي ﷺ لحبر من أحبار اليهود في خبر حكاه له، كما في صحيح البخاري، عن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد، إنا نجد: أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ([16]).
رابعاً: الرد على اتهامات المتأخرين (محمد رشيد رضا نموذجاً)
توجيــه: إذا ثبت أنّ أبا هريرة وابنَ عباس وابنَ عمر وعبد الله بن الزبير وسعيدَ بنَ المسيّب وغيرهم قد نقلوا عن كعب الأحبار، وثبت ثناء بعض الصحابة على علمه، وهم أعلم به من غيرهم، فهذا دليل على تصديقهم له، ولو كان كذّابًا أو مدسوسًا ما خفي أمره، ولئن خفي على الواحد، فإنه لا يخفى على المجموع، ولما سكتوا عنه وهو يمشي ويحدّث بين ظهراني الصحابة، وكان منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإلّا قلنا إنّهم غاشّون للدين، متواطئون على هدمه، وحاشاهم.
ودعك من اتهام الأستاذ محمد رشيد رضا له بالكذب والزندقة والدسّ، حتى سمّاه: “كعب الأحبار الإسرائليّ”([17])، فكان يرى (أنّ قدماء رجال الجرح والتعديل اغتـرّوا بهما وعدّلوهما – يعني كعبًا ووهبَ بنَ منبه-. فكيف لو تبيّن له – يعني ابن تيمية- ما تبيّن لنا من كذب كعب ووهب وعزوهما إلى التوراة وغيره من كتب الرسل ما ليس فيها شيء منه، ولا حومت حوله؟ !)([18]).
وقال أيضا – السيّد رضا-: (وقد حقّقنا من قبل أنّ كعب الأحبار من زنادقة اليهود الذين أظهروا الإسلام والعبادة لتقبل أقوالهم في الدين، وتحمل على الرواية عن أنبياء بني إسرائيل، وقد راجت دسيسته حتى انخدع به بعض الصحابة ورووا عنه، وصاروا يتناقلون قوله بدون إسناده إليه حتى ظنّ بعض التابعين ومن بعدهم أنها مما سمعوه من النبي ﷺ)([19]).
فما أعظم هذه الكلمة!! وما أخطرها في حقّ من زكّاه المحدّثون وقبلوه – كما ذكر السيد رضا- وما أقبح أن يقال: (انخدع به بعض الصحابة، ثمّ ظنّ بعض التابعين ومن بعدهم أنّ ما يرويه هو من حديث رسول الله ﷺ)، وما أفسد أن يقال: (إن قدماء رجال الجرح والتعديل اغتـرّوا بهما وعدّلوهما) – يعني كعبا ووهب بن منبه-، فحبذا لو بيّنوا هذه الأحاديث التي انخدع بها الصحابة، ورويت عنهم في الصحاح ومصادر السنّة المعتمدة، إنّها دعاوي ليس لها خطم ولا أزمّة.
فسبحان الله! كيف تبيـّن السيّد رشيد رضا كذب كعب الأحبار ووهب بن منبه، ولم يتبيّن الإمام ابن تيمية ذلك، كما في تعقيبه عليه: “فكيف لو تبيّن له – يعني ابن تيمية- ما تبيّن لنا من كذب كعب ووهب …”، بل كيف تبيّـن له كذبه ولم يتبيّـنـه أئمّة النقد الحديثيّ وعلماء الجرح والتعديل؟ بل لم يتبيّـنه من روى عنه من الصحابة؟!. بل كيف فات ذلك عمر بن الخطاب الذي أمّره على بعض من كان معه قادمين من الشام محرمين، كما روى ذلك الإمام مالك قال: حدّثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أنّ كعب الأحبار أقبل من الشام في ركب محرمين، حتى إذا كانوا ببعض الطريق وجدوا لحم صيد فأفتاهم كعب بأكله، فلما قدموا على عمر بن الخطاب ذكروا ذلك له، فقال: من أفتاكم بهذا؟ فقالوا: كعب. قال: فإنّي أمّرته عليكم حتى ترجعوا)([20]).