شهر رمضان هو شهر الأمة الإسلامية.. فيه تنزَّل القرن الكريم الذي كتب لها شهادة الميلاد والانبعاث.. وفيه كانت محطات كبرى من انتصاراتها ونجاحاتها؛ مثل بدر، وفتح مكة، وعين جالوت. فماهي رسائل رمضان الكثيرة التي ينبغي أن نستوعبها، على مستوى الفرد والمجتمع والأمة؟.. بين هذه السطور نتوقف عند ثلاثٍ من رسائل لهذا الشهر المكرَّم عند الله تعالى.
الرسالة الأولى: تزكية النفس هي الثمرة
إن تزكية النفس، والارتقاء بالروح، وتطهير الجوارح؛ هي الثمرة من العبادات، سواء أكانت هذه العبادات قيامًا بالأوامر، أو اجتنابًا للنواهي. فليس عمل الجوارح إلا سبيلاً لعمل القلب، والعروج به في منازل السائرين.
ولذا، كانت التقوى- وهي جماع هذه الصفات- الغايةَ التي حددها القرآن الكريم من فريضة الصيام، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{ (البقرة: 183).
وجاء الحديث الشريف ليبين أن الصوم لا يتم على الحقيقة بمجرد ترك الطعام والشراب، وإنما يتم بالامتثال لأوامر الله، واجتناب نواهيه، وترك الكذب والجهل والسفه؛ فقال ﷺ: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ” (رواه البخاري من حديث أبي هريرة). قال البيضاوي “ليس المقصود من شرعية الصوم نَفْسَ الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة؛ فإذا لم يحصل ذلك لا ينظر الله إليه نظر القبول. فقوله: (ليس لله حاجة) مَجَازٌ عن عدم القبول؛ فنفى السبب وأراد الْمُسَبِّبَ” (نقلاً عن فتح الباري لابن حجر).
لقد كان الصيام من أعظم وسائل تزكية النفس؛ لأنه يذكّرها بجانبها الروحي، ويقطع عنها علائق المادة والشهوات؛ فيخفت داعي الباطل، وتنكسر وساوس النفس، ولا يجد الشيطان لنزغاته صدى.
الرسالة الثانية: التوازن بين الروح والجسد
يأتي الصيام ليذكر المسلم بما ينبغي أن يكون عليه في حياته، من التوازن بين أشواق الروح ومتطلبات الجسد؛ بحيث لا يطغى الإنسانُ في تلبيه حاجات أحدهما، على الآخر.
وشهر رمضان يغرس في المسلم هذا السلوك بطريقة عملية؛ إذ يمتنع فيه المسلم عن شهوتي البطن والفرج لساعات- حتى يزكي روحه وقلبه- ثم يلبي حاجة الجسد مع غروب الشمس.. حتى إنه جاء في السنة النهي عن الوصال في الصيام؛ أي ألا يفطر الإنسان عند الغروب، ويستمر صائمًا بالليل حتى يصله باليوم الثاني؛ ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن النبي ﷺ نَهَى عَنْ الْوِصَالِ. قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ، قَالَ: “إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ؛ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى”.
فليس الصيام حرمانًا للجسد من حقوقه، ومن الضرورات التي تقوم بها حياته؛ إنما هو تذكير للمسلم بأن غايته لا يجوز أن تنحصر في متطلبات مادته، وبأن لروحه حقوقًا لا تقل أهمية عن حقوق جسده، بل تعلوها؛ إذ الإنسان من غير تحقيق الجانب الروحي فيه- بالعبادة والتقوى وصالح الأعمال- ينحطّ إلى دركات سفلى، ويفقد ما ميزه الله به عن سائر المخلوقات.
وهذا التوازن الذي يقرره الإسلام بين الروح والجسد، هو ميزة كبرى من مميزات الإسلام، أكدها في الكثير من آياته وتوجيهاته وتشريعاته، بمثل قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77).
الرسالة الثالثة: العناية بحقوق الله وحقوق الناس
أما الرسالة الثالثة من رسائل رمضان، فإن رسالة الإسلام تعلِّم المسلم مراعاة حقوق الله تعالى، ومراعاة حقوق العباد أيضًا؛ لأن الفرد لا يعيش وحده، بل يحيا وسط مجتمع، وينسج معه علاقات متشعبة.
ولأن الإسلام ليس دعوة للانعزال والانطواء، فقد اهتم بسلوك المسلم مع الآخرين، وأمره بإحسان العلاقة مع الناس، بل جعل هذا من علامات حسن إسلامه، وكمال إيمانه؛ وذلك في مثل قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199)، وقوله ﷺ: “لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ” (رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك).
وشهر رمضان ينسج على المنوال ذاته؛ فهو يهذِّب المسلم روحًا ونفسًا في علاقته مع الله، بمثل ما يُقوِّم سلوكَه وأخلاقَه في علاقته مع الناس. ولذا، فالمسلم مأمور- خاصة في صيامه- بالابتعاد عن سيئ الأخلاق، ورذيل الفعال؛ قال ﷺ: “إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ وَلا يَصْخَبْ؛ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ” (رواه البخاري من حديث أبي هريرة).
بجانب ذلك، شُرع في شهر رمضان إفطار الصائم- ولو على تمرة- وإطعام الطعام، كما شرعت صدقة الفطر؛ مما يدلل على أن رمضان ليس موسمًا للعبادة بمعناها الفردي فحسب، أي علاقة المسلم بربه، إنما يمتد أثره ليظلل علاقات الناس بعضهم ببعض؛ فهو شهر الصفاء الروحي والصفاء الاجتماعي معًا.
وبهذا الالتفات المطلوب لرسائل رمضان؛ من حيث تزكية النفس، وإقامة التوازن بين أشواق الروح ومتطلبات الجسد، والقيام بحقوق الله وحقوق الناس في آن واحد.. يتبين لنا أن رسالة هذا الشهر الكريم هي رسالة الإسلام ذاته، وأن رمضان عنوان على ذلك البناء الضخم من القيم والمعاني والمفاهيم التي ينبغي أن تمتد في حياتنا طوال العام، وإن كانت في شهر رمضان آكد، وأعظم أجرًا..